الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن وجود فقراء في مجتمع ما أمر قدري عادي لا بد أن يكون، كما قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32)، فإن المجتمع كما لا يخلو من مرضى ولا يخلو من مجرمين فإنه لا يخلو من أيضا من فقراء، ولكنه يصبح مشكلة عندما تغيب الحلول النافعة وأساليب العلاج الناجعة لهذه الآفة، وحين تكون في مقابل ذلك كل العوامل مساعدة على تضاعف الظاهرة وانتشارها، حتى تصبح حالة الفقر منتشرة أو قل غالبة في المجتمع، ويزداد المشكل تعقيدا إذا أصبحت أسبابه مقننة ووسائله المعمقة له مستباحة، وقبل الوقوف عند الأساليب الشرعية للحد من ظاهرة الفقر نبين خطر فشوها على المجتمع.
خطر الفقر على المجتمع المسلم
إن الفقر يهدد المجتمع المسلم من عدة جوانب يهدده أولا بالانحراف العقدي والأخلاقي، فإنه كما قيل كاد الفقر أن يكون كفرا ، وقال بعض السلف :" إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك"، قال ذو النون المصري:" أكفر الناس ذو الفاقة الذي لا صبر له". والكفر هنا قد يكون كفرا اعتقاديا بحيث يرتد المسلم عن دينه، إذ تجد في الناس من ينطقه ضيق العيش بكلمات تصدع الإيمان من القلوب وتقتلعه من جذوره ، وتجد فيهم من يقع فريسة لدعاة المذاهب الهدامة والعقائد الفاسدة كما هو واقع في زماننا فإن كثيرا من يتنصر في بلاد الإسلام إنما دفعه إلى ذلك الحاجة والفقر ، وأما تأثير الفقر على الأخلاق والسلوك فغير خاف، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :« إن الرجل إذا غرم ( أي استدان ) حدث فكذب ووعد فأخلف » رواه البخاري ، ونبه في موضع آخر إلى أن الفقر يكون سببا للوقوع في السرقة والزنا، وذلك في الحديث المتفق عليه الذي أخبر فيه عن ذلك الرجل الذي تصدق على سارق وتصدق على زانية فقيل له :« أما صدقتك على السارق فلعله يستعف عن سرقته، وأما صدقتك على الزانية فلعلها تستعف عن زناها».
ومن الجوانب التي يؤثر فيها الفقر سلبا على الأمة المردود الفكري الذي يعتبر المحرك الأساسي لجميع مجالات الحياة، فالعالم والمعلم والمسير والعامل الذي يكون مشغول الذهن بخبز عائلته يكون معوقا عن استثمار كل طاقته العقلية والفكرية، ومعلوم أن شغل القلب من أسباب شروده وغفلته وعدم إصابته، ولأجل ذلك نهى الرسول لأجل ذلك القاضي أن يحكم بين الناس وهو غضبان ، ومما يؤثَر في هذا الباب أن أبا حنيفة قال :" لا تستشر من ليس في بيته دقيق "، وذلك للمعنى المشار إليه. وثمة ظاهرة أخرى نتجت في هذه العصور وهي هجرة العقول إلى بلاد الكفر فرارا من الفقر، ولاشك أن هذا مما كان له التأثير السلبي الواضح على مردود المجتمعات الإسلامية، وعمَّق تخلفها عن ركب الدول المتقدمة صناعيا.
وكذلك الفقر يهدد بنية المجتمع واستقراره من عدة جهات فهو عائق في وجه تكوين الأسرة للعجز عن الباءة، وهو عائق في استقرار واستمرار تماسك كثير من الأسر، خاصة عندما لا تصبر المرأة على إعسار الرجل وعجزه عن حقها في النفقة ، وكذلك الفقر يهدد أمن المجتمع خاصة إذا كان ناتجا عن ظلم واستبداد واحتكار للخيرات، وينقلون في هذا المعنى كلمة أُثِرت عن أبي ذر رضي الله عنه :" عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه". وإذا تحدثنا فيما مضي عمن يبيع دينه لأجل المال، فلا يستغرب أن يكون فيهم من يبيع وطنه وأهله ويعمل لصالح عدوه للسبب نفسه .
علاج المشكلة في الإسلام
لعلاج هذه المشكلة في الإسلام عدة وسائل مادية وشرائع يمكن تقسمها من حيث الجنس إلى عناصر علاج مباشرة، وعناصر وقائية وفيما يلي شرح موجز لهذه الوسائل والشرائع.
أولا : عناصر العلاج المباشرة
1-إيجاب النفقة على الأقارب:أول العناصر التي جاءت بها الشريعة وهي مما يواجه به ظاهرة الفقر، إيجاب النفقة على الأقارب على الزوجة وعلى الآباء و الأولاد وتشريع نفقة الأقارب، فقال تعالى : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(النساء19) وأمر بالإحسان إلى الوالدين وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :« يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك » رواه النسائي وصححه ابن حبان. لذلك فإنه من العجائب أن يُعدَّ من الفقراء المسنون، الذين لهم أولاد حالهم ميسورة في بلدان يزعم أهلها أنهم مسلمون.
2-إيجاب الزكاة :ومن أهم الوسائل التي شرعت لهذا المقصد فريضة الزكاة ، التي جعلها الرسول شرطا في عصمة دماء من يقول لا إله إلا الله ، وصرح في الحديث المتفق عليه أنها صدقة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء، وقال الله تعالى في بيان مستحقيها : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (التوبة:60)، والفقير من لا دخل له، والمسكين من له دخل لا يسد خلته والغارم هو العاجز عن سداد دينه . وهذه الزكاة تشمل النقد ومنه عروض التجارة إذا بلغت حدا معينا، ولا يؤخذ من صاحبها إلا نسبة واحد من أربعين سنويا، وتشمل الحبوب يؤخذ منها نصف العشر، أو العشر إذا كان السقي بالأمطار فقط، وتشمل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) ولكل منها حد نصاب مقادير ليس هذا موضع شرحها وتفصيلها، ومن الزكاة المفروضة زكاة الفطر التي وجبت وجوب النفقة، وقد قدرها النبي صلى الله عليه وسلم بصاع من طعام عن كل فرد من أفراد المسلمين.
3-الترغيب في صدقات التطوع : إضافة الصدقة المفروضة المقننة التي تمس أموالا معينة دون غيرها، فقد رغب الشرع في صدقة التطوع التي تتحدد بزمن أو مقدار أو جنس من المال، ومما ورد في الترغيب في ذلك الوعد بالتعويض في الدنيا والآخرة قال تعالى: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً)(المزمل20) والإخبار بأن الصدقة تطفأ غضب الرب سبحانه وقوله صلى الله عليه وسلم اتقوا النار ولو بشق تمره وغيرها ، ومن أنواع الصدقات التي رغب فيها الشرع الصدقات الجارية أو ما يسمى بالوقف، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم.
4-الحقوق المتعلقة بالمال من غير الزكاة المفروضة : ومما عالجت به الشريعة ظاهرة الفقر بعض الحقوق التي علقت بالمال وإطعام الفقراء خصوصا كالكفارات، كفارة اليمين التي قال فيها الله تعالى : ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) (المائدة89) وكفارة الإيلاء والظهار والجماع في نهار رمضان وكذا كفارة قتل الخطأ، وفدية الشيخ الكبير والمريض العاجز عن الصيام ، وإيجاب التصدق بلحم الأضحية ومنع إدخاره في الحالات الطارئة، والترغيب في ذلك في الحالات العادية.
5-دور بيت مال مسلمين:وفي الشريعة الإسلامية ما يسمى ببيت مال المسلمين الذي له موارد أكثرها معطل في هذا الزمان كالخمس والفيء والجزية والخراج، اللهم إلا مال من لا وارث له والوصايا وما سبق ذكره من زكاة وكفارات، فهذا البيت هو مؤسسة الدولة التي يفترض أن تتحمل مسؤولية توزيع الصدقات وإيصالها إلى مستحقيها وإن كانوا في أقصى البلاد، وقد عدَّ كثير من الفقهاء من موارده إن سجل عجزا بعد الاجتهاد في جمع ما هو مشروع: الضرائب الاضطرارية التي رخصوا في فرضها على أرباب الأموال الطائلة دون غيرهم.
ثانيا : العناصر الوقائية من الفقر
1-الحث على العمل والتكسب:من الأسباب المباشرة للفقر البطالة وترك التكسب، وهذه الظاهرة قد عالجها الإسلام من عدة جهات منها الحث على العمل والأكل من الكسب الحلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما على المنبر:" اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة" متفق عليه، وقال :« ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده » البخاري . وإيجاب النفقة على العيال مع منع الزكاة عن القوي القادر على الاكتساب لقول النبي صلى الله عليه وسلم :« لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي » (رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة) دليل يجعل العمل واجبا.
2-إباحة الطيبات المشاعة التي لا مالك لها : ومن الأمور التي يفترض أن تقلل من مظاهر الفقر والبطالة أن الله تعالى قد أباح للناس ما على الأرض وفي بطنها وما في البحر وما طار في الجو من الطيبات ما لم يتناولها ملك أحد، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) (البقرة:168) وقال : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل:14)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من أحيا أرضا مواتا فهي له " رواه الترمذي وصححه وإحياء الموات أن يعمد الشخص لأرض لا يعلم تقدم ملك عليها لأحد ولا اختصاصها بمنفعة عامة، فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكا له أينما كان موقعها، ولا يشترط إذن الحاكم في ذلك على قول جمهور العلماء.
3-تحريم الرذائل الموجبة للفقر : وتتدخل الشريعة في السلوك الفردي بحيث تحرم بعض التصرفات وبعض الأعمال، التي من شأنها أن توقع الإنسان في الفقر والحاجة بعد أن كان ذال مال، ومن ذلك تحريم تناول المسكرات المذهبة للعقل والمضيعة للمال، ومن ذلك تحريم الميسر أو القمار الذي لا يختلف اثنان أنه من أكبر أسباب الإفلاس والفقر بعد اليسر ، وكذلك حرم التبذير بوضع المال في غير موضعه وإنفاقه في ما لا يحتاج إليه من كماليات، وقد قال تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)(الإسراء27) وقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء29).
4-تحريم المعاملات التجارية المعمقة لفقر الفقراء :ذلك أن الشريعة الإسلامية شريعة العدل التي تحفظ حقوق الضعفاء المحتاجين فقد جاء تحريم الربا فيها تحريم قاطعا، لأنه رمز الدمار ومؤشر خراب الاقتصاد وسبب واضح للتفقير ومظهر جلي من مظاهر استغلال حاجة الناس لأكل عرقهم وجهدهم ، وكذلك حُرم الاحتكار بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :"لا يحتكر إلا خاطئ " رواه مسلم، ومعلوم أن الاحتكار مما يسبب الغلاء وعجز الناس عن شراء حوائجهم الأساسية ويكون الثراء لطائفة معينة على حساب أغلب الأمة، وكذلك حرمت الشريعة الضرائب فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الغامدية التائبة:" إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له" رواه مسلم ، لأنها لون بارز من ألوان الظلم المسبب لإفلاس التجار ورفع الأسعار وزيادة عجز الفقراء.
وإذا حققت العناصر المادية المطلوبة شرعا جاءت العناصر المعنوية كالبركة الربانية والتوفيق الإلهي الذي يسير هذا الكون وما فيه، وقد قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (الأعراف 96) وقال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) (المائدة 66)، ولكن أنى لمجتمع يمنع الزكاة أو يصرفها في غير مصارفها، ويعطل الشريعة ويحارب مظاهر التدين أن يبارك له في رزقه؟! وأنى لمجتمع ضيع الإيمان ونسي الله تعالى في السراء والضراء معا أن يعان على تخطي مشاكله؟! وقد جاء في الحديث:« يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم »رواه ابن ماجة والبيهقي واللفظ له وصححه الحاكم والألباني، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري