الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن من الاختيارات الصعبة التي تعرِض للشاب الجزائري في هذا الزمن اختيار البقاء في الجزائر للصمود أمام التحديات ومصاعب الحياة، وللسعي للإصلاح قدر المستطاع، إنه اختيار صعب باعتبار الواقع وتفكير غالب الناس، وإلا فهو بالنسبة إلى الكثيرين من أبناء هذا الوطن أسهل وأوضح اختيار.
إنه قد انهزم شباب الجزائر أمام الوضع المتأزم الذي تعرفه البلاد، فطائفة من مبتغي الدنيا والتمتع فيها، أصبحوا لا يفكرون إلا في الغرب الذي صوِّر لهم جنةُ معجلة، وأصبحوا يرون الجزائر جحيما ينبغي التخلص منه، وصاروا يفضلون الموت في أعماق البحر أو التسول والذل والسجن في بلاد الكفر والكافرين على البقاء في أرض آبائهم وأجدادهم.
وطائفة أخرى نحسبهم على صلاح وعلى قدر متفاوت من الاستقامة أزعجهم وضع البلاد من جهة ما آل إليه من الفساد، فواجهوه بانهزامية ونظرة القنوط واليأس، وخاصة أن الفساد أصبح له حماة يرفعون شعار الإصلاح، والخيانة صار لها رجال يدعون الوطنية (بل يحتكرونها)، وحتى أصبحوا يرون أنفسهم أنهم بسبب تمسكهم بقيمهم وأصالتهم يعالمون معالمة الخونة والدخلاء، فرأوا الفرار من ساحة الوغى وحلبة الصراع حلا لحماية أنفسهم من خطر خيل إليهم أنه محقق، فافرنقعوا شرقا وغربا، والعجب من هؤلاء كيف يتجه كثير منهم إلى الغرب أيضا، وكأن الغرب أحسن وضعا من بلادهم، وأهله أرحم بهم من بني جلدتهم، في حين أنك لو سألتهم عما ينكرونه في مجتمعنا حتى قنطوا كل هذا القنوط؛ لقالوا إن البلاد تتجه إلى الغرب وإلى كل شيء فاسد جاء من الغرب، وأن جمهور الأمة قد خانوا قيمهم ولغتهم وإسلامهم، وقد خانوا الشهداء الذين ضحوا من أجل أن تعيش الجزائر مسلمة عربية بتقاليدها الشرقية لا الغربية!!
إن هذا الكلام موجه إلى الشباب الذين تكونوا تكوينا سليما، ويودُّون أن يصلح حال البلاد على جميع الأصعدة، الشباب الذين بيدهم التغيير وهم لا يشعرون، الذين إن خرجوا جميعا من هذه البلاد تمكن منها الفساد حقا، والذين إن لم يهبوا لانقاذها ولم يتحركوا ليشغل كل واحد منهم منصبه الذي هو أهل له؛ لكان الفساد متمكنا بسبب خمولهم وانهزاميتهم.
أيها الشباب الجزائري المسلم ما هذا الذي نسمع به في هذه السنوات؟ وما الذي نراه؟ ما هذا التحول المذهل عن الأخلاق والقيم؟ ما هذا الانحراف الخطير عن العقائد والمبادئ؟ ما هذا الانزلاق الخطير نحو الغرب والارتماء في أحضان الاستعمار من جديد؟ وأين أبناء الوطن المخلصون؟ ولماذا هم بين مهاجر ومفكر في الهجرة؟ بين ساكت قانط وبين مداهن خامل؟ وبين مثبط ومتحرك تحركا فرديا لا يكاد يجدي نفعا؟
ومع كل الحماس الذي تحمله هذه الكلمات أشعر بالعجز عن التأثير في غيري التأثير الذي أرجوه، لأني أعلم أن مثل هذه الكلمات لابد لها من تطبيق عملي حتى تجد طريقا سريعا إلى القلوب، ولا بد أن تصحبها تضحيات تنفخ فيها روحا تسري في النفوس، فاستنجد بأعلام صدقت أعمالهم أقوالهم وكانت التضحية شعارهم ودثارهم، وهم يتمتعون لأجل ذلك بالثقة المطلقة لدى أبناء الجزائر الخلَّص، فأبدأ بنداءات الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى التي صدر بها مقالات نشرها سنة 1925 وسنة 1926) « هذه جزائركم تحتضر أيها الجزائريون فانقذوها» «ألا أيها النوام هبوا » «الجزائر تصيح بك أيها الجزائري أينما كنت». وأذكر بموقفه الشجاع الذي كان تطبيقا عمليا لما كان يدعوا إليه، لما نصحه جمع من أصدقاءه وحاولوا إقناعه بالخروج من الجزائر بعد أن أصبح هدفا واضحا للعدو الفرنسي فكان جوابه دائما:« إذا كنا سنخرج كلنا خوفا من الموت فمن يبقى مع الشعب؟»
واقتد أيها الشاب الجزائري بالإمام ابن باديس رحمه الله تعالى لما وقف في أرض الحجاز بين ناصح يقول:« ابق هنا واقطع صلتك بالوطن» وناصح آخر يقول :«ارجع إلى بلدك لخدمة الدين والعربية بقدر الإمكان». فقال مبينا اختياره ورادًّا الفضل لله تعالى الذي عصمه وسدده: «فحقق الله رأي الشيخ الثاني، فرجعنا إلى الوطن بقصد خدمته فنحن لا نهاجر ، نحن حراس الإسلام والعربية والقومية بكل مدعمتها في هذا الوطن». لا أقول ابق لتموت كمدا وأنت ساكن، ولكن ليكون لك وجود وتأثير، ولكن لتكون بطلا من الأبطال، ولتأخذ بنصح الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى وهو يخاطب المعلمين :« إن زمانكم هذا بطل فقاتلوه بالبطولة لا بالبطالة، وإن البطل هو الذي يتعب ليستريح غيره ». إنهم كانوا أقل عدد منا وواقعهم أمرُّ من واقعنا، ولكنهم بقوا في وطنهم وتحدوا المحال، فاللهم اجعلهم قدوتنا في العمل والتضحية وقدوة جميع الشباب المخلصين لدينهم ولغتهم وتاريخهم.
الكاتب محمد حاج عيسى الجزائري