تحصي السفارة الجزائرية في الولايات المتحدة الأمريكية ما مجموعه 16.5 ألف جزائري بالولايات المتحدة الأمريكية، فيما تقول إن عددهم قد يفوق 30 ألفا، وتفسّر ذلك بأن الكثير من الجزائريين لا يسجّلون أنفسهم بالسفارة الجزائرية، غير أن هذه الأرقام التي تقدمها السفارة بما فيها الرقم غير الرسمي بعيدة كل البعد عن الواقع، ويتضح ذلك بالرجوع إلى الإحصاءات التي تقدمها وزارة الهجرة الأمريكية، فخلال السنوات العشر الأخيرة فقط، تم منح الإقامة الدائمة لأكثر من11ألف جزائري، وخلال نفس الفترة حصل ما يقارب 8 آلاف جزائري على الجنسية الأمريكية، كما أن ذات الإحصاءات تكشف أن الجزائريين الذين حصلوا على الإقامة في أمريكا منذ عام 1962يقارب 20 ألفا، وإذا أضفنا الأبناء والأحفاد والجزائريين المولودين بالخارج إلى هذا الرقم، فإن التعداد قد يكون أكبر من التوقعات الحالية. وقد يصل إلى 60 ألفا، ذلك أن أبناء المهاجرين الجزائريين الذين يولدون في الولايات المتحدة الأمريكية أو الذين يولدون في بلد آخر ثم يهاجرون إلى أمريكا لا تشملهم الأرقام الخاصة بالحصول على الإقامة الدائمة أو الجنسية الأمريكية، حيث أنها تحصي المهاجرين القادمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفق بلد المولد.
*
وفي الواقع فإن هذه الأرقام تؤكد حقيقة واحدة هي أن الجالية الجزائرية من أصغر الجاليات حجما في الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك لم تشملها أية دراسة أكاديمية من قبل، كما لم تحظ باهتمام ولو رمزي من قبل وسائل الإعلام الأمريكية والعربية، إذ تعد الجالية الجزائرية من أضعف الجاليات تنظيما بسبب عدم وجود ترابط وثيق بين أفرادها.
لكن التركيبة البشرية للجالية الجزائرية تمكنها من لعب دور حاسم في تجديد العلاقة بين أمريكا والعالم العربي، حيث يوجد أكثر من 1200باحث وذوي كفاءات عالية ويحملون شهادة الدكتوراء في الكثير من التخصصات، ويعملون في مختلف المجالات، ومن بين هؤلاء مسؤولون في الإدارة الأمريكية يرسمون سياساتها ويحددون علاقاتها مع دول العالم، ولعل تواجد شخصية جزائرية بارزة ضمن المقربين إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أكبر دليل على أهمية الدور الذي يلعبه الجزائريون، ويتعلق الأمر بالبروفيسور، إلياس زرهوني، المبعوث الشخصي للرئيس الأمريكي للعلوم والتكنولوجيا في العالم الإسلامي.
من هذا المنطق جاءت هذه الدراسة الميدانية لأوضاع الجالية الجزائرية بأمريكا، التي تستهدف بالدرجة الأولى فهم طبيعة الجالية وتكوينها وحصر أماكن تواجدها، واستشراف الأدوار التي ستقوم بها مستقبلا في ظل المستوى الذي وصلت إليه كجالية مشكلة حديثا، وذلك على صعيد التقارب بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي، بعد أن اتسعت الفجوة بين الطرفين بسبب الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الإسلامي، تحت مسمى مكافحة الإرهاب وبسبب تزايد الأصوات المتطرفة في الولايات المتحدة نفسها الداعية إلى حرق القرآن والتضييق على المسلمين.
*
لقد كانت مدة ثلاثة أشهر كافية لإجراء عشرات المقابلات مع الجزائريين المقيمين بالولايات المتحدة الأمريكية، والاتصال بالعديد من الجمعيات الناشطة في مختلف الولايات، والإطلاع على بعض الدراسات التي تناولت تاريخ هجرة العرب والمسلمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بمن فيهم الجزائريون، والإطلاع كذلك على أرشيف بعض الصحف الأمريكية خصوصا بعد هجمات11سبتمبر2001، والحصول على الإحصاءات الرسمية سواء من السفارة الجزائرية بواشنطن أو من وزارة الهجرة الأمريكية، وإجراء لقاءات مع باحثين ومهتمين بقضايا الشرق الأوسط، وزيارة الأحياء التي يسكنها جزائريون.
*
هذه الخطوات رسمت صورة أوضح عن الجالية الجزائرية المقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت في حكم المنسي، حيث تجهل الدولة الجزائرية ممثلة في سفارتها في واشنطن العدد الحقيقي للجزائريين المقيمين بأمريكا، وتكفي الإشارة هنا إلى أن بعض الجزائريين يزورون بلدهم بجواز سفر أمريكي وبتأشيرة، وهذا مثال على حالة القطيعة الموجودة. وذلك يعود إلى عدم فعالية المؤسسات المهتمة بجاليتنا بالخارج عموما بالجالية الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية، فالوزارة المكلفة بالجالية لا تفعل شيئا لمحاولة ربطهم بوطنهم، ورغم العدد الهائل للجزائريين في أمريكا ورغم العلاقات الاقتصادية والتجارية الممتازة بين البلدين، إلا أنه لحد الآن لا يوجد خط جوي يربط البلدين، حيث يضطر الجزائريون إلى السفر عبر لندن أو فرانكفورت أو باريس أو مدن أوروبية أخرى.
*
تطور هجرة الجزائريين إلى أمريكا
*
الجالية الجزائرية في أمريكا حديثة التشكل، وبالتالي قليلة الوزن مقارنة بالجاليات الأخرى، مثل الآسياويين أو الإسبانيين أو حتى الجاليات العربية مثل اللبنانيين والمصريين مثلا، في مجتمع تشكل أصلا من المهاجرين.
*
وقد ساهمت عوامل تاريخية كثيرة في تأخر الهجرة من شمال إفريقيا وتحديدا من الجزائر إلى أمريكا، فقبل احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830، لم يكن الجزائريون يضطرون إلى السفر بالنظر إلى مستوى المعيشة آنذاك، حيث تذكر المصادر التاريخية نماذج عن حالة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي في الجزائر آنذاك، إذ كانت الجزائر تموّن فرنسا بالقمح، وفيما يتعلق بالجانب الثقافي فإن نسبة الأمية كانت منعدمة تماما في المجتمع الجزائري. أضف إلى ذلك قوة الدولة آنذاك، حيث كان الأسطول الجزائري يسيطر على البحر الأبيض المتوسط.
*
هذه الوضعية المريحة من كل النواحي، جعلت الشعب الجزائري في غنى عن الهجرة إلى أماكن أخرى من العالم، ولهذا فإن المصادر التاريخية لا تتناول تاريخ الهجرة من شمال إفريقيا بقدر تناولها لتاريخ الهجرة من منطقة الشرق الأوسط (1). لكن أحد المبشرين القدامى روى قصة مثيرة عن شخص جزائري يسمى سليم، وهي قصة أول جزائري هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن الرواية موجّهة بشكل يخدم الكنيسة في ذلك الوقت، وينتقص الإسلام حيث يطلق عليه اسم المحمدية. وفي ما يلي قصة الجزائري سليم.
*
قصة أول جزائري هاجر إلى أمريكا
*
قصة أول جزائري هاجر إلى أمريكا الشمالية كتبها رجل دين من منطقة فيرجينيا يسمي "القس بنجامين إيتش رايس" وقد عثرنا عليها في كتاب قديم منشور سنة1861، حيث يقول: "في أحد الأيام غادر صامويل جيفينز ـ وهو مستوطن إنجليزي ـ منزله للصيد في الغابة بالقرب من مقر سكناه في بلدة أوغوستا كونتي بفيرجينيا، وكان ذلك تقريبا في أواخر الحرب بين فرنسا وإنجلترا (حرب برادوك) (2). وبالرجوع إلى تاريخ نهاية هذه الحرب ندرك أن ذلك حدث سنة1761 أو 1762، حيث عثر صامويل جيفينز في تلك الغابة على رجل أشعث كان على مشارف الموت. ولم يكن يتكلم الإنجليزية، لذلك لم يستطع جيفينز الحصول على أية معلومة من الرجل.
*
حمل صامويل الرجل إلى بيته واعتنى به وقدم له الطعام واللباس والمأوى، وساعده في ذلك الكولونيل ديكرسون. وبعد أسابيع تعلم الرجل الحديث باللغة الانجليزية وروى قصته لصاحب المنزل قائلا: اسمي سليم وأنا من الجزائر، وأنا من عائلة ثرية ومحترمة في الجزائر، أرسلني والدي إلى القسطنطينية (أسطنبول) لمزاولة دراستي هناك، وأمضيت بضع سنوات وعدت إلى الجزائر لزيارة والدي، ثم قررت العودة مجددا إلى القسطنطينية لإكمال الدراسة، وخلال رحلة العودة تعرضت الباخرة التي كنت على متنها، للسطو من قبل الإسبان ووقعت في الأسر، واقتيدت الباخرة ومن عليها إلى نيوأورلينز، قبل المرور بنهري الميسيسيبي وأوهايو وصولا إلى منطقة شاوني التي يسيطر عليها الهنود الحمر، وهناك تركت أسير حرب لدى الهنود، وقد علمت أن الانجليز استوطنوا الضفة الشرقية من أمريكا، لذا حاولت الفرار من الهنود الحمر وصولا إلى الإنجليز" ـ يقول كاتب القصة إنها كانت محاولة جريئة من رجل غريب نظرا لبعد المسافة والمخاطر العديدة الموجودة في الأدغال ـ ويواصل سليم سرد قصته فيقول: "لم يكن لي مرشد في الطريق غير الشمس، حيث كنت أمشي باتجاه المشرق، ولم أكن أملك أية مؤونة خلال الرحلة ولا سلاحا ولا ذخيرة تمكنني من الصيد والحصول على أكل وقد بدأت ثيابي تتمزق بسبب طول الرحلة، ومن غرب إمريكا إلى شرقها كنت أعيش على البندق والتوت اللذين أحصل عليهما من الغابة، لدرجة تمكن فيها اليأس مني، وكنت على مشارف الموت حين تم العثور علي".
*
ويواصل كاتب القصة سرد تفاصيلها حيث يقول: "لقد تم تقديم سليم الجزائري إلى القس جون كريغ وهو رجل دين بالكنيسة المشيخية، هذا الأخير علم من سليم أنه يتقن الحديث والقراءة باللغة اليونانية، فأعطاه كتاب دين مسيحي باللّغة اليونانية، وبعد أسبوعين أمضاهما سليم في قراءة شروحات حول الإنجيل حيث اقتنع بالمسيحية، وتوجّه بعدها إلى الكنيسة التي يعمل بها جون كريغ واعتنق الدين المسيحي وتم تعميده في نفس اليوم، وبعد أيام قال سليم للقس إنه يحن إلى وطنه ويرغب في زيارة والديه وأقاربه وأصدقائه في الجزائر، فقال له القس إن الذين يتّبعون محمدا لن يقبلوا بدينه الجديد ولن يقبلوا به بينهم، لكن سليم أصر على موقفه بزيارة الجزائر، وبعد عودته تبرّأ منه والداه وأصدقاؤه ولم يعد أحد يريده هناك بسبب تخلّيه عن الإسلام، فأدرك سليم أن القس كان على حق وعاد مجددا إلى فرجينيا.
*
يقول الكاتب إنه لا يعرف بالتحديد المدة التي بقي فيها سليم في الجزائر قبل عودته إلى فيرجينيا، ولكن بعد عودته، أصبح سليم في حالة نفسية متدهورة، حيث أصبح بلا أهل ولا مال ولا أصدقاء ولا حرفة يمكن أن يتخذ منها مصدر رزقه، فسافر إلى انجلترا على أمل أن يجد فرصا أفضل هناك، ووجد نفسه مجددا وحيدا وبلا أصدقاء فعاد إلى فرجينيا وبقي هناك يبحث عن أصدقاء إلى أن فارق الحياة.
*
ويضيف الكاتب أن هناك العديد من الروايات التي تحكى عن سليم وهو في حالته النفسية" حيث يقولون إنه كان مسالما في العادة و كان يظهر امتنانا للصّدقات التي تُمنح له و كان يُظهر احتراما للدين وكان ملتزما بالصلاة في أغلب الأوقات، وكان يبدو عليه مزاج الرجل النبيل من خلال تصرفاته، غير أنه كان ينهار في بعض الأحيان ويتجول في بعض الأماكن، وأحيانا يكون عاريا تقريبا لعدم رغبته في الاحتفاظ بالملابس التي تصدّق بها المحسنون له. واستمر به الوضع هكذا إلى غاية أن فتك به المرض ووضع حدا لآلامه..."وفارق الحياة. (3).
*
هذه القصة المؤثرة المقولبة وفق رؤية تبشيرية تخدم الكنيسة وتسيء إلى الإسلام تكاد تكون المصدر الوحيد عن تاريخ هجرة الجزائريين الأوائل إلى أمريكا، لكن يمكن أن نأخذ منها العديد من المعلومات التاريخية المهمة، فمن الواضح أن هجرة سليم إلى أمريكا لم تكن اختيارا بل اضطرارا، حيث أُسِر وسُلِّم إلى الهنود الحمر، ومن ثم فر إلى شرق أمريكا، فالجزائر حينها كانت دولة مستقرة تحت النفوذ العثماني، لذلك لا يضطر الجزائريون للهجرة، وكانت للعائلات الجزائرية تقاليد ثقافية وعلمية، ومثال على ذلك حالة سليم الذي أرسل إلى القسطنطينية لتلقي العلم، وهذا يفسّر عدم وجود مهاجرين جزائريين قدامى في الولايات المتحدة الأمريكية.
*
ولا تذكر المصادر التاريخية قصصا أخرى عن المهاجرين الجزائريين القدامى في الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن السفارة الجزائرية تستقبل أحيانا جزائريين بوثائق هوية قديمة صادرة أثناء العهد الاستعماري في الجزائر، وبينها حالة مسن قدم من نيكاراغوا بوثائق قديمة صادرة عن الحكومة الفرنسية آنذاك باعتباره من الأهالي الجزائريين، حيث قدم هذه الوثائق كدليل للحصول على جواز السفر الجزائري، ويوجد كذلك مهاجرون قدامى في ألاسكا وهم في تواصل مع السفارة الجزائرية.
*
وقد روى لنا أحد الجزائريين المقيمين في واشنطن قصة مؤثرة عن واحد من أوائل المهاجرين الجزائريين حيث قال : "التقيت سنة 1985 شيخا مسنا قال إنه جزائري وأن اسمه بن عليوي، وقد هاجر إلى أمريكا سنة1937، أي خلال الفترة الاستعمارية وتزوج من امرأة ذات أصول يهودية، هذا الرجل كان متشوق لبلده ويريد العودة إلى الجزائر، وبعد سنتين ـ يضيف المتحدث ـ اتصلت ببيت بن عليوي لأسأل عنه، فكلمتني زوجته وهي تبكي، قائلة إن بن علوي قد توفي قبل أن يتمكن من زيارة الجزائر.