بينما كان "مائير دجان" يتناول قهوة الصباح يوم الثلاثاء (10/9/2002 ) إذا برئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون يتصل به قائلاً: "لا أحب أن أراك متوترًا، أنا عند وعدي لك منذ عامين.. ستكون رئيس الموساد الجديد".
من هذا الحديث الحميمي نستطيع أن ندرك كيف ارتبط الصديقان (شارون- دجان) بعلاقة غير عادية؛ فهل ترجع هذه العلاقة إلى ما عبَّر عنه أحد رجال "دجان": "شارون يكنُّ التقدير لدجَّان؛ لما يتميز به من قدرة تنفيذية وأسلوب تفكير خاص"، أو أن الأمر يرتبط بمصالح شخصية وحسابات دموية؟!
"شارون"- "دجان".. ثنائي مدهش ودموي!!
"مائير دجان" جنرال متقاعد وُلد في قطار كان في طريقه من سيبيريا إلى بولندا، ووصل إلى إسرائيل في سنّ الخامسة، وحين تطوَّع في الجيش غيَّر اسمه من "هوبرمان" إلى "دجان"، متزوج وأب لثلاثة أبناء، ويعيش في شمال إسرائيل.
بدأت علاقة هذا التحالف غير المقدس (شارون- دجان) في أواخر ستينيات القرن العشرين، عندما خدم دجان كقائد للواء المظليين في الجيش الإسرائيلي تحت إِمرة شارون الذي كان قائدًا للمنطقة الجنوبية.
وأوكلت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك "جولدا مائير" لشارون مهمة القضاء على حركة الفدائيين الفلسطينيين التي كانت في أَوجِها في قطاع غزة، ووضع كل من شارون ودجان في ذلك الحين مخطَّطًا لاغتيال الفدائيين، أطلقوا عليه "اجتثاث الشياطين"؛ حيث قام جنود لواء المظليين بقيادة الجنرال "دجان" بقتل كل فدائي يقبض عليه، ونفْيِ أسرته إلى الأردن أو لبنان، وهدم كل بيت يؤوي فدائيًّا.
وبلغت القسوة بـ"دجان" إلى إصدار أوامره لجنوده بالتمثيل بجثة أي فدائي، ونفذ الجنود الأمر؛ حيث قاموا بوضع جثث الشهداء في بالوعات المجاري أمام مرأى من الجمهور الفلسطيني؛ إمعانًا في الإذلال، وزرعًا للخوف في القلوب.
أدى هذا الإذلال الذي تعامل به الجنود الصهاينة في هذه الوحدة إلى أن يصرحوا لـ"يديعوت أحرونوت" 11/9/2002 "الخدمة في هذه الوحدة والإعدام بدم بارد للأسرى قد شوَّش حياتنا تمامًا، وأصاب نفسيتنا إلى الآن".
دجان حبيب الليكود.. يدافع عن وحشيته
ويبدو دجان الاختيار المفضَّل لزعماء الليكود؛ ففي فترة تولي "إسحاق شامير" الحكومة تمَّ تعيين دجان رئيسًا لشعبة العمليات في القيادة خلال حرب الخليج، وكان شامير ينوي في حينه تعيين دجان لمنصب رئيس الموساد، لكن شامير لم يلبث طويلاً في منصبه، وبالمثل استعان بنيامين نتنياهو بخدمات دجان، وعيَّنه رئيسًا لوحدة محاربة الإرهاب.
بلغت خدمة دجان (55 عامًا) في الجيش الإسرائيلي 32 سنة، بدأ في وحدة المظليين، وأصيب خلال الخدمة مرتين فحاز وسام الشجاعة، وشغل دجان في منصبه العسكري الأخير قائد ركن محاربة الإرهاب التابع لمكتب رئيس الحكومة، واعتزل دجان الخدمة العسكرية قبل 5 سنوات، وعمل منذ ذلك الحين كأحد قادة لجان الانتخابات التابعة لشارون في حزب الليكود، ومن هذه المكانة القريبة من شارون تم تكليفه عام 2001 بتولي مسئولية ملف الانتفاضة الفلسطينية.
يحاول دجان في مقابلاته الصحفية أن يبرر تصرفاته الوحشية وتاريخه الأسود؛ فيدافع عن الاغتيالات قائلاً: "أنا لا أفهم لماذا يمكن لطائرة أن تُسقط عدة أطنان من القنابل على رجال حزب الله في لبنان، ولكن لا يجوز لوحدة مستعربين أن تَمس (لاحظ التعبير) ثلاثة مخرِّبين؟!".
والمعروف أن دجان أول من بادر إلى سياسة الاغتيالات ضد القادة الفلسطينيين سنة 1970، وقد أقام لهذا الغرض أول وحدة "مستعربين"، كما أنه مؤسس الميليشيات العميلة التي كانت تابعةً لجيش الاحتلال، وعندما ترك الجيش وخرج إلى الحياة المدنية كان أول نشاط له قيادة الحركة الاحتجاجية الشعبية التي أقامها المستوطنون اليهود لمقاومة الانسحاب من هضبة الجولان السورية المحتلة.
ويروي أحد أعضاء الوفد الصهيوني الذي زار واشنطن 2001 برئاسة دجان للالتقاء بوفد أمريكي أن دجان قد صرَّح للأمريكيين: لدينا نوعان من النشاطات لمكافحة الإرهاب: نوع "رسمي" ونوع آخر "غير رسمي"، وهذا الاعتراف الصريح من دجان بوجود سياسة غير رسمية في التصفية والاغتيالات تحت حجة مكافحة الإرهاب هو ما اشمأز منه الأمريكيون أنفسهم، حسب تعليق راوي القصة.
دوره السياسي.. خنق عملية "السلام"
رأَس دجان الوفدَ الإسرائيلي الأمني الذي أجرى محادثات مع الجانب الفلسطيني عام 2001 تحت رئاسة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط "أنتوني زيني" التي انتهت بالفشل، وقال عنه يومها مديرُ عام وزارة الخارجية الإسرائيلية "أفي جيل": "إن من يريد إحباط فرص التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع الفلسطينيين عليه أن يكتفي بتفويض شخص مثل مائير دجان".
يُعد دجان في نظر كثير من المحللين صاحب سياسة حصار عرفات وإذلال القيادات الفلسطينية؛ فهو يحرض دائمًا ضد القادة الفلسطينيين الذين يفترض فيه أن يتفاوض معهم؛ فدجان يقرر من خلال حديث أجراه مع القناة الثانية للتليفزيون الإسرائيلي 11/2/2001: أنه من خلال موقعه كرئيس للطاقم الإستراتيجي المكلف بالتعامل مع الانتفاضة سيوصي بالتعرض لحياة قادة السلطة الفلسطينية، مضيفًا "أن الضغط على النخب الحاكمة في السلطة الفلسطينية هو وحده الكفيل بوقف الانتفاضة".
لم يكتف دجان بذلك، بل اعترف "بأنه شارك شخصيًّا في عمليات الإذلال التي تعرض لها الفلسطينيون"، في إشارة إلى انتفاضة الأقصى، ودافع عما قام به، مبرِّرًا ذلك بأنه جاء من أجل إفهام الفلسطينيين أنه يجب أن يعوا أنه لا طائلَ مطلقًا من أي عمل "عدائي" يقوم به الفدائيون ضد الجيش الإسرائيلي، وأنه لن يتضرر الفدائيون وأسرهم فقط بل ومجمل السكان الفلسطينيين.
دوره الاستخباراتي.. تجنيد العملاء والخونة
من أهم الأدوار التي لعبها دجان تجنيد الخونة، وقد لعب دوره بمهارة جعلت "إسحاق رابين" يعجب من النجاح الذي حققه الرجل، تروي "يديعوت أحرونوت" أنه خلال زيارة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "إسحاق رابين" لمقر الموساد رافقه دجان- الذي ترأَّس ما بين 1990/ 1997 وحدة جمع المعلومات في الموساد- بعرض إنجازات وحدته، وقدم لرابين قائمةً بأسماء عملاء تم تجنيدهم، وبعد أن هزَّ رابين رأسه تعبيرًا عن الرضا قال: "على الدوام أسأل نفسي: ما الذي يدفع الإنسان إلى خيانة دولته وأسرته ورفاقه والتجسس لصالح دولة أخرى؟! فرد عليه دجان قائلاً: "لكل إنسان نقطة ضعفه، ومهمتنا هي أن نجد هذه النقطة"، وردًّا على سؤال حول إحساسه كمسئول عن تجنيد العملاء كعمل قبيح تُستخدم فيه وسائل قذرة، قال: "إنه من الصعب على من يعمل في هذا المجال البقاء نظيفًا".
ويمضي موضحًا أسلوبه في العمل قائلاً: "إننا في إسرائيل لا نسمي العميل جاسوسًا.. بل نقول له: هيا نرى كيف تسهم وتخدم عملية السلام؟ وكيف تكافح الفاسدين؟ وماذا تفعل من أجل الديمقراطية؟" وأضاف: لكل إنسان غرائزه وحاجاته؛ ولذلك لا توجد صيغة واحدة تلائم الجميع، ويمضي قائلاً: "لحظة التجنيد التي يشعر فيها العميل أنه يتحوَّل لصديق لحظة لا يشعر بها إلا المسئول عن تفعيله؛ لذلك فمن المهم لنا جدًّا أن يكون لدى المسئولين عن التجنيد شعور مرهف".
شارون يرد الجميل لصديقه.. ولا يعبأ بالمعارضة
أثار اختيار دجان- والمفترض أن يتولى منصبه في أول أكتوبر 2002- الكثير من الاعتراضات داخل الكيان الصهيوني، لكن دجان اكتفى بالتعليق لـ(أحرونوت): "هذه المسرحية السياسية تثير غضبي"، بينما برر ديوان رئيس الحكومة تعيين دجان: "بخبرته الواسعة التي اكتسبها من خلال شغله عددًا من المناصب الاستخباراتية".
وربما يفسر تمسك شارون به ما نشرته "فورين ريبورت" (النشرة البريطانية المتخصصة بالشئون العسكرية) من أن مائير دجان قد يكون متورِّطًا في اغتيال إيلي حبيقة، وقالت: "من المؤكد أن دقيقي الانتباه لاحظوا أن مائير دجان اختفى عن الأنظار لمدة ثلاثة أشهر قبل مقتل حبيقة، ولم يظهر إلا بعد مقتله"، وتمضي النشرة متسائلةً: "هل يرتبط هذا الاختفاء بالاغتيال، خاصةً أن طريقة التصفية الدقيقة لحبيقة تعني أن جهازَ مخابرات محترفًا قتله؟!".
ونظرًا للنقطة السابقة التي أشارت إليها النشرة البريطانية فإن المعارضين يلمزون التعيين بأنه "شخصي" و"ردٌّ للجميل" من شارون لدجان؛ فعضو الكنيست "يوسي ساريد" يقول: "إن تعيين دجان ينمُّ عن اعتبارات شخصية؛ فهذه وظيفة حساسة ومهمة لا مثيلَ لها، ولذلك يجب أن يكون التعيين وفق اعتبارات مهنية، وليس وفق اعتبارات شخصية أو سياسية".
وقد انقسم معارضو تعيين دجان لهذا المنصب الحساس إلى ثلاثة أقسام:
الأول: داخل الموساد نفسه؛ حيث إن هناك اثنَين من الضباط على الأقل تنافسَا على المنصب، وقالا: "إن جلب جنرال من خارج الجيش لهذا المنصب يعني الاستخفاف بالموساد نفسه وقادته؛ ولذلك قرَّرا الاستقالة، أحدهما هو نائب رئيس الموساد الحالي.
الثاني: حزب العمل الإسرائيلي الذي يحتجَّ لأن دجان انضم رسميًّا إلى الليكود، وقاد بنفسه طاقم أرييل شارون في انتخابات رئاسة الحكومة سنة 2000، ولهذا فهو تعيين سياسي وحزبي لمؤسسةٍ من المفروض أنها فوق الحزبية، وفي هذا خللٌ كبيرٌ في النظام الديمقراطي.
الثالث: معارضون بدافع الخوف من أن يكون أرييل شارون قد أكمل دائرة القادة المتطرفين للأجهزة الأمنية الأساسية، خصوصًا رئيس أركان الجيش موشيه يعالون ورئيس جهاز الاستخبارات العسكرية في الجيش الجنرال "أليعزر فركش"، ورئيس الموساد دجان.
كل هذه الأسباب جعلت المعارضة تشتد، حتى وصل الأمر إلى أن تتجه بعض هذه القوى المعارضة إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية لتلغي هذا التعيين، وبالفعل تشكلت لجنة برئاسة القاضي "جبرئيل باخ" بدأت تفحص هذا التعيين قانونيًّا، ومن المتوقع أن تصدر استنتاجاتها في غضون أيام، فإذا لم تشكك أو تطعن في هذا التعيين فإن التعيين سيصبح رسميًّا.
ماذا سيفعل دجان؟!
من الطبيعي والرجل بهذا السجل المزري أن تتوقع بعض الأوساط الإسرائيلية نفسها أن الموساد بقيادته الجديدة سيصبح أكثر شراسةً، وسيُعيد سياسة الاغتيالات والتصفية، ليس فقط ضد الفلسطينيين، وليس فقط في الداخل بل خارج الحدود الإسرائيلية كذلك.
وأكثر من ذلك فالبعض يتوقع احتمال تنفيذ عمليات داخل العراق؛ حيث إن دجان كان قد أعد خططًا حربيةً بهذا الصدد في فترة حرب الخليج الثانية، ويقال: إن من بينها خطة اغتيال الرئيس العراقي صدام حسين، وبالفعل جرى التدريب عليها بقيادته، لكنها أُبطلت بعد أن حدث فيها "خلل فني"، وأطلق صاروخ بالخطأ نحو الضباط الذين كانوا يتدرَّبون على العملية، فقتل 4 منهم على الفور.
ويبقى السؤال: هل لتعيين دجان في هذا التوقيت علاقةٌ بما يخطَّط للعراق؟! وهل التعيين من شارون فحسب أو أن الإدارة الأمريكية تقف وراءه؟! وهل يتدخل الموساد في شئون العراق؟.. أسئلة تنتظر إجابات، والزمن وحده كفيل بالإجابة.