الضابط الثاني: التفرغ للبيت والتخصص في تربية الأولاد
ومن صفات الزوجة الصالحة التفرغ للبيت والتخصص في تربية الأولاد، أو الاستعداد الفطري لأداء مهمتها في الحياة، ويدل على اعتبار هذا الضابط أن من مقاصد الزواج في الإسلام إنجاب الأولاد وتكثير أمة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم:« تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ»([1])، وهذا المقصد لا يتم بدون أم متفرغة لبيتها حريصة على حسن تربية الأولاد، تعتقد أن هذا دورها في المجتمع وأن هذ الوظيفة هي المناسبة لفطرتها.
ونصوص الشرع متضافرة على أن الأصل في المرأة المسلمة مكوثها في بيتها لا خارجه، مما يجعلها تفهم أن وظيفتها الأصلية في الحياة تؤدى فيه، ومن ذلك قول المولى عز وجل: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب:33) وقول النبي صلى الله عليه وسلم:« وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا»([2]). وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بالخروج لأداء الصلاة في المسجد ولكن صلاتها في بيتها خيرا من صلاتها في المسجد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:« خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» ([3]) .
قال العلامة ابن باديس رحمه الله في شرح الحديث الأخير :« لا بقاء لأمة من الأمم إلا بانتظام أسرها وحفظ نسلها، وقد خصص الله المرأة للقيام بهذين الأمرين، وزودها من الرحمة والشفقة ما يعينها عليهما، وإنما تقوم بها إذا جمعت ما بين العفة في نفسها والاقتصاد في نفقتها، والتفرغ للقيام بأولادها، ولهذا لما جمعت نساء قريش ذلك كله كن خير نساء العرب»([4]).
والصحابيات التي كن أول من آمنا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فهمن هذا الأمر وانقدن له دون اعتراض أو تردد، فكن بحق مربيات الأجيال ومخرجات الأبطال.
مخالفات في واقع المسلمين
وكثير من المسلمين اليوم غافلون أو معرضون عن تطبيق هذا الضابط، فقد يحرص من ملأت الدنيا قلبه وسكن الطمع نفسه على الزواج من المرأة العاملة، وقد يبتلى أحدهم بمن تشترط عليه أن تعمل فيقبل ذلك.
وإذا لم تكن المرأة مستعدة لهذه الوظيفة فإنها سترمي أولادها عند الجيران أو في دور الحضانة، فينشأ الطفل مختل عاطفيا محروما من حنان الأمومة، مما يسبب له عقدا نفسية يجني أشواكها فيما بعد أسرته والمجتمع كله، فضلا عن أن كثيرا ممن يعمر دور الحضانة يكون فيها من يحتاج إلى إعادة تربية، وقد يكون فيها من هو مندس في أمتنا ومنتسب إليها بغية تدميرها من الداخل كالمتنصِّرين والعلمانيين والشيوعيين.
وإن مما كان يخشاه المسلمون أن يظهر في مجتمعاتهم ما يسمى بأطفال المفاتيح، أطفال بلغ تعدادهم في إحصاءات قديمة في الولايات المتحدة الأمريكية أربعة ملايين طفل، كلهم يرجع إلى البيت آخر النهار حاملا مفاتيح البيت الخاوي من الوالدين العاملين([5]). والمجمعات الإسلامية مع الأسف قد فقدت كثيرا من مناعتها ضد الغزو الفكرى الغربي والحرب النفسية المسلطة عليها، فانساقت متبعة سنن الكفار انبهارا بهم وتقليدا أو انهزاما وشعورا بالصغار والتقزم أمامهم، فظهر فعلا الذي كان محل خشية وتخوف، والله المستعان.
أمهات صالحات خلدهن التاريخ
ومما يجدر التذكير به تشجيعا للأمهات على حسن تربية الأولاد نماذج لرجال من الأبطال كان لأمهاتهم الأثر الواضح على أخلاقهم، بل وفي توجههم في الحياة، فصاروا من أعلام الإسلام ورموزه شهرتهم بلغت الآفاق واستمرت في الزمان.
-منهم سفيان الثوري فقيه أهل العراق والمحدث المشهور الذي كانت أمه تقول له: «يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي»، ولو لا أمه وصنيعها لما تفرغ لطلب العلم ولا عرفناه اليوم.
-ومنهم الأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه قد نشأ يتيما في حجر أمه، فانتقلت به من بلد إلى بلد، وربته تربية عجز عنها الملوك وأبناؤهم حتى استفتي وعمره ثلاثة عشر سنة.
-وكذلك الإمام مالك إمام دار الهجرة لما كان صغيرا كان المشجع له على طلب العلم أمه، التي كانت تدفعه وتحثه على الذهاب إلى حلقات العلم وتلبسه ثيابه، وتقول له:« اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه».
-ويخبرنا الإمام الشافعي ناصر السنة ومحيي فقه الحديث في زمانه عن نشأتِه وفضلِ أمه عليه، فيقول:« كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان قد رضي أن أخلفه في الدرس إذا غاب» أي قد اتفقت معه أن يكون ذلك مقابل تعليمه، والرحلة التي رحلها إلى اليمن وكانت سببا في اشتهاره وعلو شأنه، كان من ورائها أمه التي توسطت له عند بعض أعمامه لتوظيفه هناك وليواصل طلب العلم في الوقت نفسه.
ومن يقلب صفحات التاريخ الإسلامي يجد من هذه النماذج الشيء الكثير، والله تعالى الموفق وهو يهدي السبيل .
ضوابط أخرى
ويذكر العلماء صفات أخرى للزوجة الصالحة قد تكون داخلة في معنى الدين وحسن الخلق وقد تخرج عنها كشرف النسب وسلامة البدن والنفس التي قد يكون لها علاقة بنشأة الأولاد وتربيتهم ولكن الأهم هو ما ذكرنا من الدين والخلق والاستعداد للعناية بالأولاد والله أعلم.
1-ومن الشروط أو الضوابط التي تُذكر في هذا الموضع، الاغتراب: بمعنى الزواج من البعيدات في النسب والمنع من الزواج من القريبات، وهذا الشرط ليس عليه دليل معتبر من الشرع ولا من العقل بل ولا من الطب الصحيح، ويعارضه قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ) (الأحزاب:50) الذي عدَّد فيه ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته وأما الحديث الذي يذكره بعض الفقهاء« لا تنكحوا القرابة القريبة فإن الولد يخلق ضاويا أي نحيفا» فلا أصل له كما قال ابن الصلاح([6]).
2-ومن الضوابط المذكورة الزواج بالصغيرات والأبكار استدلالا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:« فَهَلَّا تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُضَاحِكُكَ وَتُضَاحِكُهَا وَتُلَاعِبُكَ وَتُلَاعِبُهَا » ([7])، وهذا في نظري لا يعدو أن يكون ترغيبا واستحبابا، ولا يمكن جعله في مرتبة الضابطَين المذكورَين اللذين هما أوكد لبناء الأسرة المسلمة وضمان التربية السليمة. وتمام الحديث يؤكد ما ذكر، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ نَكَحْتَ يَا جَابِرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَاذَا أَبِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ لَا بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ كُنَّ لِي تِسْعَ أَخَوَاتٍ فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ وَلَكِنْ امْرَأَةً تَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ أَصَبْتَ»، وفي زمننا هذا لا تلازم بين الصغر والبكارة لفشو ظاهرة العنوسة فليتنبه لهذا.
مهمة إعداد الزوجة الصالحة
ولما كانت الزوجة الصالحة تكتسي هذه الأهمية البالغة في التربية وبناء المجتمع، فقد أمر الشرع بإعدادها لهذه المهمة إعدادا مسبقا، فهذه الأم المربية إنما يُعدُّها والدها لا زوجها، يقول ابن باديس رحمه الله تعالى في شرح الحديث السابق :«يبين لنا هذا الحديث الشريف ما خلقت له المرأة من العمل العظيم في الحياة ، ويرشدنا بذلك لوجوب القيام عليها وتهيئتها لذلك بالتربية والتعليم، فتكون تربيتنا وتعليمنا لها بما يقوي فيها هذه الصفات : العفة وحسن تدبير المنـزل والنفقة فيه، والشفقة على الولد وحسن تربيته، وكل زيادة على هذه – بعد تهذيب أخلاقها، وتصحيح دينها، وتحبيبها في قومها – فهي ضارة بها ، أو مخرجة لها عن مهمتها العظيمة ، ملحقة الضرر بقومها»([8]).
إذن فمهمة إعداد الأم والزوجة الصالحة هي مهمة الآباء وذلك بتربية البنات على الحياء والعفة والخلق والعقيدة، ولذلك وعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأجر العظيم لمن ربى بنتا فأكثر تربية حسنة، فأخبر بأنها تكون له حجابا من النار وأنها توجب له الجنة.
[1]/ رواه أبو داود (2050) والنسائي (3227) وصححه ابن حبان (4056).
[2]/ رواه البخاري (893) ومسلم (1829).
[3]/ رواه البخاري (3434) ومسلم (2527).
[4]/ الآثار (2/164).
[5]/ انظر مسؤولية الأب المسلم (ص 39-40).
[6]/ وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة (ص131).
[7]/ رواه البخاري (2097) ومسلم (715).
[8]/ الآثار (2/164).
الكاتب محمد حاج عيسى الجزائري