الفصل الثاني : العوامل المعينة على التربية
بينا فيما سبق أن المسؤول الأول عن التربية هو الأب ثم تحدثنا عن الأساليب التي يوصل بها الأب -أو من يحل محله في التربية كالمعلمين- مضامين التربية الإسلامية من عقائد وأخلاق وعبادات، وفي هذا الفصل نأتي إلى ذكر الوسائل والأسباب التي بإمكانها أن تكون عونا لهذا الأب في تربية ولده تنبيها له ليحرص على توفيرها واستغلالها، وتحذيرا له من عوامل أخرى من جنس المعينة لكنها معيقة للتربية.
المبحث الأول : الزوجة الصالحة
أول العوامل المعينة للأب على تربية أولاده الزوجة الصالحة، خليفته في بيته وشريكته في مسؤولية التربية والنائب الأول عنه في غيرها من الوظائف، لأجل هذا وغيره قد ذكر العلماء أن أوَّل حق للولد على أبيه أن يختار له الأم الصالحة، الأم التي ستحمله في بطنها وتحضنه وتربيه، لأن من حق الولد على والده أن يضمن له التربية السليمة والرفقة الصالحة والسمعة الحسنة أيضا. قال أبو الأسود الدؤلي لبنيه: «قد أحسنت إليكم صغارا وكبارا، وقبل أن تولدوا، قالوا: وكيف أحسنت إلينا قبل أن نولد؟ قال : اخترت لكم من الأمهات من لا تسبون بها».
وتأثير الأم على الولد سواء كان ذكرا أو أنثى لا يمكن تجاهله، إذ للأم الأثر الواضح في ترسيخ العقائد والأخلاق؛ فهي أول من يردد الطفل كلامه ويقتدي به، وهي المعلم الملازم للولد في صغره إذ لا يكاد يفارقها، ولها أيضا أثر في تكوين الشخصية المتوازنة الذي يورثه اعتناؤها به وحنانها، بل قد ذكر علماء الطب والنفس أن للأم أثرا حتى في صحة بدنه، وقد قال فيها الشاعر :
الأم مدرسـة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
قد ذكر العلماء عدة ضوابط لاختيار الزوجة، نذكر هنا أهمها على الإطلاق، وهي الدين عقيدة وخلقا، والاستعداد الفطري لأداء مهامها في الحياة الزوجية.
الضابط الأول : الدين (عقيدة وخلقا)
قال النبي صلى الله عليه وسلم :« الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ »([1]) ومعيار الصلاح هو تدين المرأة صلاحها إيمانها عقيدتها وخلقها كما النبي صلى الله عليه وسلم : « تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»([2]). فذكر هذه الأربعة إخبارا عن الواقع، ثم دل على المعنى الذي ينبغي للمسلم أن ينكح المرأة لأجله، وهو الدين دون غيره، وليس المراد منه إجازة هذه الأمور المذكورة كما قد يتوهم، ومن وُفق لاختيار الزوجة الصالحة فقد جنب أولاده كثيرا من الصفات والأخلاق المذمومة التي قد يتعلمها الطفل من أمه، ويكون قد وضع أساسا صلبا لاستقرار بيته.
إنَّ الزوجة سوف تشاطر الرجل حياته بأفراحها وهمومها، وسوف تتحمل معه مسؤوليات دينية ودنيوية، وليس الجمال ولا المال ولا شرف النسب بالذي ينفع في ذلك، بقدر ما ينفع الدين عقيدة وخلقا، فالزوجة خليفة الرجل في بيته وأمينة عليه في غيبته والذي يفيد في هذا هو الدين، والزوجة مربية للأولاد وموجهة والذي يفيد في ذلك هو الدين.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :« مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»([3])، فبناء العقيدة وتكوين الأخلاق مسؤولية يشترك فيها الأبوان، وما دام الوالد هو الذي يختار الزوجة ابتداء فقد عادت المسؤولية إليه كاملة.
ومن معاني تدين المرأة حسن خلقها، إذ حسن الخلق باب يوصل العبد إلى رضا ربه وإلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم :« مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ »([4]). وقال صلى الله عليه وسلم :« الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ»([5])، وأفضل الزوجات أحسنهن أخلاقًا، ومن اتصفت بالعفة والحياء والصدق والأمانة والحلم والأناة، وقد نصح بعض الحكماء الرجال عند زواجهم ألا يتزوجوا مَنْ لا خُلق لها، وقال:" لا تنكحوا من النساء ستة:لا أنَّانة، ولا منَّانة، ولا حنَّانة، ولا تنكحوا حدَّاقة، ولا برَّاقة، ولا شدَّاقة". فأما الأنانة: فهي التي تكثر الأنين والشكوى، فهي متمارضة دومًا، والمنَّانة: التي تمنُّ على زوجها بما تفعل، تقول: فعلتُ لأجلك كذا وكذا، والحنَّانة: التي تحنُّ إلى رجل آخر غير زوجها، أو لقريب من قرابتها أو لأهلها، والحدَّاقة: التي تشتهي كل ما تقع عليه عينها، فترهق زوجها وتكلفه ما لا يُطيق، والبرَّاقة: التي تنفق أغلب وقتها في زينتها، والشدَّاقة: الكثيرة الكلام فيما لا يعنيها، وما لا فائدة فيه.
وخلاصة الصفات المعتبرة في هذا الباب: سلامة المعتقد من البدع ومظاهر الشرك الأكبر والأصغر، أداء الصلاة والالتزام بالحجاب، والرضا بحكم الله تعالى، والاستقامة على الشرع، فذات الدين تحب ربها، فتمتثل أوامره، وتنتهي عن نواهيه، وتعرف حقه وتراقبه في كل عمل، فعليه تتوكل وبه تستعين، وإياه تدعو ولا تشرك به جنا ولا صالحا، وذات الدين هي المحِبَّة لرسولها e، تتبع أوامره ولا تقرب ما نهى عنه، وذات الدين صاحبة خلق حسن خيرة مع أهلها بارة بوالديها ومحسنة إلى جيرانها، وكل من حولها.
وكما أن الرجل مطالب باختيار أم أولاده فكذلك أولياء المرأة مأمورون بأن يتخيروا الزوج الكفء لابنتهم، وقد جعل الشرع للمرأة البالغة أن تقبل أو ترفض من يتقدم إليها، فعلى المرأة المسلمة أن تجعل معيار قبولها ورفضها الصلاح دون غيره من الصفات كالمال والجمال والمنصب.
مخالفات في واقع المسلمين
وننبه هنا على جملة من الأخطاء والمخالفات الموجودة في واقع المسلمين :
1-ومن أكبر هذه الأخطاء أن يقول بعض الرجال إني أتزوج فلانة وإن لم تكن صالحة، ثم أنا أُصلحها ويكون لي أجر، فيجعل زواجه تجربة ومغامرة إن صحت العبارة، ومثل من يفكر بهذه الطريقة كمثل الذي أراد أن يختار شريكا في تجارته أو معمله فيختار غير أمين أو غير قادر، ويقول إني بمشاركته سأعلِّمه الأمانة، ولا شك أنه لا يوجد عاقل وحريص على نفع نفسه يخوض مثل هذه التجربة، والله عز وجل يقول:(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) (النور:26) فعلى الرجال الطيبين أن يجتهدوا في اختيار الطيبات على قدر المستطاع. وإذا صار الرجال لا يختارون إلا الصالحات كان في ذلك دعوة لغير الصالحات أن تستقمن وترجعن إلى الله تعالى.
2-ومن الأخطاء اعتبار الجمال أساس الاختيار دون الدين، وقد يستدل بعض الناس خطأ بحديث تُنكح المرأة لأربع منها الجمال، لأن هذا الحديث يدل على اعتبار الدين وعدم اعتبار الجمال، ثم إن الجمال ليس هو الذي يبني البيوت، ويورث السعادة وفي الحديث من السعادة المرأة الصالحة لا الجميلة، ومن كلمات السلف في هذا الباب:«اتق المرأة الجميلة في المنبت السوء».
3-ومن أبشع الأخطاء في هذا المضمار الزواج بالكافرات، وخاصة في بلاد الكفر التي لا تحكم بشريعة رب العالمين، فإن ذلك من أعظم الجناية على الأولاد، وإنما أباح الله تعالى نكاح الكتابيات الأصليات-لا المرتدات- للمسلم في بلد الإسلام التي تحكم فيه شريعة الله تعالى حيث يكون الأولاد تبعا لعقيدة آبائهم، وتكون القوامة للرجال في بيوتهم، وهذا أمر يجهله كثير من الخاصة فضلا عن العامة، وتخصيص الإباحة بالذمية التي تقيم في أرض الإسلام مذهب الإمام مالك.
ونقول للشباب الذين جعلوا من الزواج بطاقة عبور للضفة الأخرى من البحر والإقامة فيها، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نختار ذات الدين فأول ذلك أن تكون مسلمة، وإذا كان المسلم الغيور يعرض عن غير العفيفة وغير المتخلقة فمن باب أولى أن يعرض عن اليهودية والنصرانية.
4-ومن الأخطاء التسرع في الاختيار دون استشارة أو استخارة الأمر الذي يكون سببا في فشل الزواج وانقطاعه أو دوامه مع عدم استقراره مما يكون له الأثر السيئ على تربية الأولاد.
5-ومن الأخطاء الغلو في اشتراط صفات الكمال التي قد لا توجد حتى في الصحابيات، لذلك فإنه ينبغي أن يتغاضى عن ذاك النقص الذي لا يسلم منه أحد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:« لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»([6]) ويفرَك بمعنى يبغض .
6-وأولياء النساء أيضا يقعون في أخطاء كثيرة تدل على تناسي هذا الأساس العظيم في اختيار الزوج الكفء، فقد يقبل الولي بالخاطب حياء من الأقارب لأنه من العشيرة، أو يقبله لأنه ذا مال أو جاه، ويظن أنَّه بذلك يُسعد ابنته وموليته، بل ترى بعضهم لا يعتبر أي شرط والمهم عنده تسريع عملية الزواج وأن لا تبقى البنت في البيت معدودة في العوانس. وقد قال رجل للحسن: قد خطب ابنتي جماعة فمن أزوجها؟ قال :« من يتق الله فإنه أن أحبها أكرمها وأن أبغضها لم يظلمها».
هذا وإن هذه الأخطاء وغيرها في هذا الباب تدل على أن شباب المسلمين اليوم قد غفلوا عن مقاصد الزواج التي ينبغي أن يسعوا إلى تحقيقها، والتي تجعل من زواجهم عبادة يؤجرون عليها، ومنها الاقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم ومنها إنجاب الأولاد الصالحين الذين يكثرون به سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، منها إنجاب الولد الصالح الذي هو من العمل الذي يستمر أثره حتى بعد وفاة الإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» ([7]).
[1]/ رواه مسلم (1467).
[2]/ رواه البخاري (5090) ومسلم (1466).
[3]/ رواه البخاري (1358) ومسلم (2658).
[4]/ رواه الترمذي (2003) وصححه الألباني.
[5]/ رواه مسلم (2553).
[6]/ رواه مسلم (1469).
[7]/ رواه مسلم(1631).