المبحث الثاني : استقرار البيت
إنه مما علم بالاضطرار أن كل مشروع يبتغى به الإصلاح لابد أن يكتنف تنفيذه الاستقرار المنافي للاضطراب والفوضى، وكذلك في ميدان تربية الأولاد لا يكون ممكنا تنفيذ شيء مما ذكر من أساليب التربية، ولا ما يأتي ذكره من مضامينها من دون تحقيق الاستقرار في مقرات التربية (أي البيوت والمساجد والمدارس). وتأتي البيوت في مقدم هذه المقرات أهمية باعتبارها المقر الأول والدائم ولأنه يعمرها المربيان الأساسيان لكل مولود وهما الوالدان، فما هو السبيل لضمان استقرارها ؟
إن ميزان استقرار البيوت مرتبط بالعلاقة بين الزوجين، لذلك سنتحدث عما يخص ثبات هذه العلاقة وتزلزلها، حيث أصبح الشقاق والطلاق ظاهرة اجتماعية خطيرة في زماننا، ظاهرة تهدد كيان الأسر وبناء المجتمع من أساسه، ظاهرة وداء استشرى في الأمة ففطن له المصلحون ونادوا بتداركه منذ أمد بعيد، وتنبهوا إلى أسبابه وعلله فحذروا منها وحاولوا اقتلاعها، وملخص أسباب تحول الطلاق من علاج إلى ظاهرة اجتماعية وداء يهدد الأمة ترجع إلى أسباب أربعة:
1-غرق الأمة في الجهل بدينها والتصاقها بعوائد الجاهلية.
2-وعجز الأئمة الذين قيدتهم أساليب المتأخرين العقيمة وأبعدتهم عن روح الشرع ومقاصده.
3-تساهل كثير من الأزواج في إصدار كلمة الطلاق ومضغهم لها في كل مناسبة.
4-سوء الاختيار والتسرع فيه ([1]).
إن الطلاق ما شرعه الله تعالى وأباحه إلا لكونه متضمنا لمصلحة راجحة، لو تأملناها وحاولنا التعبير عنها في فكرة واحدة لقلنا هي الحفاظ على استقرار البيت، إذ الأزواج الذين تنافرت قلوبهم وأصبح اجتماعهم في بيت واحد هو سبب عدم الاستقرار فالطلاق بالنسبة إليهم وإلى أولادهم هو المصلحة الراجحة وأخف الضررين، وقد قرر الشيخ البشير الإبراهيمي هذا المعنى فقال:« فإن زاغت الفطرة من أحد الزوجين عن محورها، أو طغت الغرائز الحيوانية على الفضائل الإنسانية في أحدهما أو كليهما، ولم يقم العقل وحده أو مع الحكمين بإصلاح ذات البين؛ فالله أرحم من أن يكلف عباده هذا النوع من العذاب النفسي ، وهو الجمع بين قلبين لم يأتلفا وطبعين لم يتحدا، وروحين لم يتعارفا، لذلك شرع لهما الطلاق ليستريح إليه من ضاق ذرعا بصاحبه ضيقا معقولا بدواعيه وأسبابه»، ولكن غالب الطلاق الواقع في مجتمعنا ابتعد فيه الأزواج عن مراعاة أحكام الشرع الإسلامي فصار مفسدة محضة، بل وسفاهة خالصة في كثير من الأحيان، ويتبين ذلك بالنظر إلى أسبابه التافهة، وبتأمل آثاره السلبية على تربية الأولاد ونتائجه الوخيمة التي يجنيها المجتمع ككل.
من أثر الطلاق على الأولاد
من الآثار الناتجة عن الطلاق إهمال تربية الأولاد أو نقصها في أحسن الأحوال، فإنهم بعد الافتراق إما بصحبة أمٍّ لو كانت تفكر فيهم وفي مسؤولية تربيتهم لتنازلت عن بعض حقوقها في سبيلهم، وإما بصحبة والد لو قدَّر حجم مسؤولية تربية الأولاد لما تشدد في الأمور ولما تسرع إلى إصدار مثل هذا الحكم الذي يتحمل أولاده نتائجه.
ومنها الأثر السلبي على نفسية الأولاد، سواء ذاك الذي ينشأ مع زوج أمه، أو الذي يتربى في أحضان زوجة أبيه، وهذا الأثر لو كان سبب الفراق موت أحدهما لكان ضئيلا، ولو كان المجتمع يعيش بالإسلام وأخلاقه لانعدم، فإن مما يزيد في تعقيد نفسية كثير من الأولاد ما يُسمِعُه الأبوان من سب وتشويه كل منهما في حق الآخر، بل يكفي لتعقيدهم في بعض الأحيان أن يُحس بالتنافر بينهما، وهو يرى الآخرين من أقرانه آمنين في أسرهم مطمئنين.
ومعنى الاستقرار لا يقف عند تجنب الطلاق بل هو أعم من ذلك إذ معناه الانسجام التام بين الزوجين وتجنب الخلاف والشجار بينهما، ويؤكد علماء الصحة النفسية في هذا المضمار على أن الخلافات بين الوالدين تساهم في نشأة المشاكل عند الأولاد، لأنها تدل على أنهما غير سعيدين وغير آمنين، فلا يستطيعان تحقيق السعادة والأمن لأطفالهما لأن فاقد الشيء لا يعطيه([2])، والطفل الذي ينشأ في جو مشحون بالخلافات والشجار تتكون لديه عقد نفسية فيفقد الثقة في بوالديه اللذين كانا يعتبران المثل الأعلى لديه فلا يقبل منهما أي نصيحة أو توجيه، ويصبح يشك في كل شيء حوله حتى يفقد الثقة في نفسه، بل ويصبح جو المنزل ثقيلا عليه لا يطاق، فيفر على الشارع ليتجنب رؤية ما لا يحب وسماع ما لا يرضى، والشارع غالبا يكون سببا للانحراف وتعلم العادات القبيحة والأخلاق الرذيلة.
ولأهمية ضمان هذا الاستقرار رأيت أن أتوسع قليلا بذكر قواعد التعامل بين الزوجين من أجل حياة سعيدة منسجمة هنيئة ينشأ فيها الأولاد نشأة سوية ويربون فيها تربية إسلامية.
قواعد في التعامل بين الزوجين
أولا : التعاون على الطاعة
قال تعالى لإسماعيل عليه السلام : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طـه:132) فمن حفظ حق الله تعالى حفظ له المولى عز وجل رزقه وجازاه على ذلك خير الجزاء، من هذا الجزاء أن يوفقه للحياة السعيدة في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) ، ومن ترك ذلك عاقبه الله تعالى لأن الزواج نعمة وهو لم يشكرها، فالاختلاف والشقاق كثيرا ما يكون بسبب معصية الله تعالى، وكان بعض السلف يقول:« إني أعرف معصيتي في عصيان زوجتي ».
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتعاون الزوجان على الطاعة واجبها ونفلها فقال: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ»([3])، وقال بعض الصحابة يوما لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ فَقَالَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم:« أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ وَقَلْبٌ شَاكِرٌ وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ»([4]).
ثانيا : غض الطرف عن يسير الهفوات
ومعنى هذا أن لا يغالي كل من الزوجين في طلب كمال خصال الآخر، فنحن نعتقد انتفاء الكمال عن البشر وأن:« كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»([5]) وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:« لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»([6])، ويفرك بمعنى يبغض. وقال صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا»([7]).
وقد قال الشاعر في هذا :
من ذا الذي ترجى سجاياه كلها كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه
وقال آخر :
سامح أخاك إذا خلـط منه الإصابـة بالغلـط
وتجاف عـن تعنيفـه إن زاغ يوما أو قسـط
و احفظ صنيعك عنده شكر الصنيعة أم غمـط
و اقن الوفاء ولو أخــل بما اشترطت و ما اشترط
و اعلـم بأنك إن طلبت مهذبـا رمت الشطـط
من ذا الذي ما ساء قـط ومن لـه الحسنى فقـط
ولو انتقدت بني الزمـا ن وجدت أكثرهم سقط
ثالثا : حسن الظن والتماس الأعذار
ومن قواعد التعامل بين الزوجين، ومن الخصال الحميدة التي ينبغي أن يتصف بها المسلم حسن الظن بالناس، فإن أكثر العداوات الواقعة بين الناس لو فتَّشت عن سببها لوجدته سوء الظن ووساوس الشيطان، الذي لا شيء يرضيه مثل التفريق بين الأزواج والإخوان، فمن رأى من صاحبه شيئا يكرهه وكان له في محمل حسن فواجب عليه أن يعتذر عنه في نفسه ولا يفتح بابا للشر كان مغلقا، وقد نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ لَيْلًا يَتَخَوَّنُهُمْ أَوْ يَلْتَمِسُ عَثَرَاتِهِمْ » ([8])، ومعنى (يتخونهم) : يظن خيانتهم, ويكشف أستارهم, ويكشف هل خانوا أم لا؟ وهذا أدب نبوي رفيع مندرج في سياق الإبقاء على الستر وحسن الظن الذي ذكرنا، وقال صلى الله عليه وسلم أيضا:« وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ » ([9])، وفي هذا الحديث حث على حسن الظن وقبول الأعذار.
رابعا : المشاركة في الأفراح والأحزان
وهذا من الحقوق المشتركة التي تقوي الرابطة بين الزوجين، ويدل على اعتبار هذا الحق حديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ إِنَّمَا تَغَيَّبَ عُثْمَانُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ مَرِيضَةً فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ »([10])، وهذه الصفة أدب من أدب الصحبة التي يغفل عنها كثير من الناس، ويحسن أن نورد هنا هذه القصة التي رواها عمر رضي الله عنه حيث دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يبكي هو وأبو بكر بعد قبوله الفداء في أسرى بدر ونزول العتاب فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا »([11]).
خامسا : الصبر والمطاوعة
ومن أهم الأشياء التي ينبغي أن يتحلى به طالب الاستقرار في بيته الصبر، صبر الرجل على زوجته وصبر الزوجة على زوجها، فإن الصبر يعتبر شرط دوام مخالطة الناس عموما لأنه لا يسلم من خالط الناس من أذى. ويُسنِد الصبر أيضا خُلُق التطاوع الذي يُفترض التحلي به في كل عمل يشترِكُ فيه اثنان، ومعنى المطاوعة أن يتنازل كل واحد عن بعض حقه للآخر ليحصل الاتفاق في الرأي، وقد وصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى -وقد كلفهما بِمَهَمَّة دعوية مشتركة- فقال لهما: « تَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا»([12])، قال أبو الدرداء رضي الله عنه يوما لزوجته أم الدرداء:« إذا رأيتني غضبت فرضني وغدا إذا رأيتك غضبت رضيتك، وإلا لم نصطحب»([13]).
الكاتب محمد حاج عيسى الجزائري
[1]/ وانظر وصفها مطولا في عيون البصائر للشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى (3/298-300).
[2]/ الأسرة وانحراف الأبناء (25).
[3]/ رواه أبو داود (1308) والنسائي (1610) وابن ماجة (1336) وصححه الألباني.
[4]/ رواه الترمذي (3094) وصححه الألباني.
[5]/ رواه الترمذي (2499) وابن ماجة (4251) وحسنه الألباني.
[6]/ رواه مسلم (1469).
[7]/ رواه البخاري (3331) ومسلم (1468) واللفظ له .
[8]/ رواه مسلم (715).
[9]/ رواه البخاري (7416) ومسلم (1499).
[10]/ رواه البخاري (3130).
[11]/ رواه مسلم (1763).
[12]/ رواه البخاري (3038) ومسلم (1733).
[13]/ العقد الفريد (6/126).