الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن أعظم نعمة يمن بها
المولى عز وجل على العبد هي نعمة الهداية إلى الإسلام والاستقامة على
الدين، وإن من واجب كل مسلم عرف هذه النعمة أن يحرص على دوامها، أكثر من
حرصه على دوام غيرها من النعم (نعمة الصحة والأمن والمال والولد )، لأن هذه
النعمة هي سبب النجاة في الآخرة وطريق السعادة الحقيقية والأبدية. ومن حرص
العبد عليها أن يسلك كل السبل التي تقوي إيمانه وتمكنه من الثبات على
الدين، وفيما يأتي تذكير بأهم وسائل الثبات وتوضيح لمعانيها:
1-الصدق والإخلاص
أوَّل شيء يُثبت العبد على الطاعة والاستقامة؛ أن يكون مخلصا في توبته،
مبتغيا بها رضا الله وعفوه وصفحه؛ بأن يقلع إقلاعا عن ذنوبه الظاهرة
والباطنة، وأن يندم على ما مضى من عمره، وأن يكون عازما على الثبات وعدم
الرجوع إليها ، ومن لم يكن في توبته كذلك فهو من الماكرين ، والله تعالى
مطلع على السرائر ويعلم ما تخفي الصدور ، قال تعالى:] وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ (الأنفال30)، وقد قال
تعالى في حق المترددين غير الصادقين في توبتهم :] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة[ (الحج11). وأما من كان مخلصا فإنه يجد في قلبه بإذن الله
حلاوة الإيمان، التي تمنعه من الانقلاب ومن مجرد التفكير فيه، قال النبي
صلى الله عليه وسلم: »ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن
يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار« متفق عليه.
2-المحافظة على الفرائض والإكثار من النوافل
على العبد الذي يريد أن يثبته الله تعالى على الدين والطاعة والاستقامة،
أن يقدم البرهان العملي على صدق توبته، وعلى عزمه الأكيد على أن لا يعود
القهقرى ، وذلك بالمداومة على الطاعة المفروضة، وأن يجتهد في النوافل بعد
المحافظة على الفرائض من صلوات ومن صيام ومن غير ذلك، وذلك أن الطاعة تجعل
في القلب نورا وتدعو إلى الطاعة، وأن المعصية تدعو إلى المعصية وتجعل على
القلب ظلمة وتكسوه غشاوة وتسهل على العبد الانتكاس نسأل الله السلامة،
والله تعالى حكيم عدل لا يظلم الناس ولا يضل منهم إلا من ظلم أو فرَّط، قال
تعالى : ] فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم[ (الصف5)، أما
الذين يطيعونه ويتقربون إليه فيزيدهم هداية وثباتا، قال تعالى : ]وَيَزِيدُ
اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً[ (مريم76)، بل إن الله تعالى يحب
العبد المتقرب إليه، فإذا أحبه فهل يتصور أن يتخلى عنه أو يضله؟! يقول الله
تعالى في الحديث القدسي :» وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت
عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي
يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن
سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه « رواه البخاري.
3-لزوم الجماعة في المسجد
ومن وسائل الثبات مصاحبة الجماعة الصالحة من أهل بيت الله تعالى (وكذا
لزوم الصلاة في الجماعة) لأن المؤمن ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، وذلك من جهة
نصحهم وتذكريهم وصحبتهم المشجعة على الطاعة وعلى الثبات عليها، وقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم: »ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم
الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب
القاصية « رواه الأربعة وصححه ابن خزيمة، أي إنما يأكل الذئب من الغنم تلك
المنفردة المبتعدة عن الجماعة، وكذلك الشيطان لا يستحوذ إلا على
من ابتعد عن الجماعة، ولن يجد العبد هذه الجماعة الصالحة إلا في بيت الله
عز وجل وفي حلق العلم، فعلى من أراد الثبات أن يحافظ على الصلاة في جماعة،
وليلازم حلقات تحفيظ القرآن والحلقات العلمية.
4-مفارقة أهل المعاصي ورفقاء السوء
وقد قيل في الحكم الصاحب ساحب، وفي الحديث :» المرء على دين خليله فلينظر
أحدكم من يخالل«، والعبد إذا تاب وبقي مخالطا لأهل معاصيه السابقة، فإنهم
سيذكرونه بها وربما أغروه بالعودة إليها، لذلك كان من الواجب على التائب
بعد هجر المعاصي أن يهجر أهلها المصرين عليها، وفي حديث الرجل الذي قتل
مائة نفس لما سأل العالم: هل لي من توبة؟ قال له العالم: نعم ومن يحول بينك
وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله
معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء « رواه مسلم، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم:» إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل
المسك ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن
تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة
« متفق عليه.
5-طلب العلم وتعلم العقيدة
إن الإيمان الذي يرسخ والذي لا يبلى إن شاء الله تعالى، هو الإيمان المبني
على العلم لا على العاطفة الجامحة التي سرعان ما تذوب وتضمحل ، والمقصود
بالعلم هنا العلم بالله تعالى وبصفاته الدالة على جماله وعظمته، العلم
المورث لمحبة الله وإجلاله ، وكذلك العلم بسيرة الرسول وحقوقه والعلم
بالجنة والنار وغيرها من أمور العقائد ، وبعدها العلم بشرائع الإسلام
والحلال والحرام، وهذا العلم هو الذي يورث صاحبه اليقين، الذي يثبته على
الدين ولو ضرب وشرد وعذب كما ثبت أصحاب النبي e في أول الإسلام، كما قال
هرقل معللا سبب عدم ارتداد أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم عن دينهم: » كذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب «،
والذي لا شك فيه أنه ثمة فرقا بين الإيمان المبني على العلم وذلك المبني
على مجرد التقليد والوراثة ، وإن هؤلاء الذين خرجوا من الإسلام إلى
العلمانية أو الشيوعية أو النصرانية جميعا كانوا مسلمين إسلاميا وراثيا غير
مبني على العلم واليقين ، ومما ينبغي أن يعلمه المسلمون أن طلب العلم
الشرعي فرض عليهم جميعا، كما أن الصلاة والصيام والزكاة فرض ، بل من العلم
ما لا يصح إسلام المرء إلا به (علم التوحيد)، ومنه ما لا تصح الصلاة
والصيام إلا به، فالعلم من أعظم الواجبات وأهم وسائل الثبات، وتحصيل هذا
العلم يكون بلزوم حلقات العلم والدروس، وبالالتحاق بحلقات حفظ القرآن
وبسماع الأشرطة (الوعظية والتعليمية) ومطالعة الكتب الشرعية ، ومما ينبغي
التذكير به أنه من واجب كل مسلم أن تكون له في بيته مكتبة صغيرة، فيها
الأمور الضرورية (كتاب على الأقل في كل علم من العلوم: في العقيدة والتفسير
والفقه والسيرة والآداب) وكذلك مكتبة سمعية فيها مصحف مرتل ودروس الوعظ
والرقائق وسلاسل علمية في العقيدة والفقه وغيرها.
5-الدعوة إلى الله تعالى
نعم إن الدعوة إلى الله تعالى من وسائل الثبات لأنها طاعة من الطاعات،
وواجب من الواجبات التي يتقرب بها إلى الله تعالى وخاصة لما فيها من الأجر،
وقد قال صلى الله عليه وسلم:» من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من
تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم
مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا« رواه مسلم، وهي من وسائل
الثبات لأن العبد إن نصح وأمر ونهي فاستجيب له أورثه ذلك فرحة وسرورا
وإيمانا، وكذلك أمر ونهيه يلزمه بالعمل والطاعة، ويمنعه من التقهقر لأنه يخاف أن ينطبق عليه قوله تعالى :] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[ (البقرة:44)،
والدعوة إلى الله من وسائل الثبات أيضا لأن المرء يغير بها وسطه الذي يعيش
فيه أسرته وحَيُّه وأصحابُه ، ولا شك أن من أسباب ضعف الإيمان والانقلاب
والعياذ بالله فساد هذا الوسط ، فإذا سارع العبد التائب إلى تغييره، فقد
أمَّن نفسه من شر وأوجد لنفسه أناسا يستأنس بهم، وربما كانوا –فيما يستقبل
من أيام -هم من يذكره إذا نسي وينبهه إذا غفل ويقويه إذا ضعف.
6-الدعاء والتضرع إلى الله تعالى
مع كل ما يعمل الإنسان من خير، من صدقات وصلوات وغيرها، فلا ينبغي له أن
يغتر بعمله، لأن الغرور من أسباب الهلاك ، بل عليه أن يسأل الله تعالى أن
يثبته على الدين والطاعة، وأن يرزقه حسن الخاتمة، وأن يبكي بين يديه ويتضرع
إليه حتى لا يجعل فتنته في دينه واستقامته، ولننظر إلى حال نبينا صلى الله
عليه وسلم الذي اختاره الله واجتباه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،
ومع ذلك كان يتعوذ من عذاب القبر ومن عذاب النار، وكان يكثر أن يقول يا
مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
ولتعلم أيها العبد أن العبرة بالخاتمة؛ فمن ختم له بعمل أهل الجنة كان من
أهلها، ومن ختم له بعمل أهل النار كان من أهلها، فاسأل الله حسن الخاتمة
واعمل لها واستعذ من سوء المنقلب ، وإذا رأيت أنك على خير فلا تأمن على
نفسك من مكر الله ، قال تعالى : ]أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[ (الأعراف:99)،
وانظر دوما إلى حال من هو خير منك، ولا تنظر إلى حال من هو أدنى منك، ولك
في الرسول e القدوة الحسنة وفي أصحابه الكرام رضي الله عنهم، ثبتنا الله
وإياك على الطاعة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
. الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري .