الفصل الأول : أساليب التربية الإسلامية
إن القرآن الكريم كتاب هداية عامة تطرق لكل موضوع، وشمل كل مناحي الحياة يقول تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89) وما أجمل فيه فصلته السنة النبوية الصحيحة التي أرشد إليها القرآن، ومما تضمنه الشرع كتابا وسنة وتكفل ببيانه: أساليب التربية الناجعة ووسائلها المعينة على تحقيقها فضلا عن مضامينها. لم تأت هذه الأشياء مرتبة ومجموعة في أبواب وفصول خاصة، ولكن جاءت معروضة بصيغ مختلفة ودلالات متفاوتة في مواضع متفرقة، شأنها شأن سائر المواضيع الأخرى الاعتقادية أو الفقهية ما تعلق منها بالعبادة أو السياسة أو الاقتصاد، وإن طريقة هذا العرض من الإشارات الواضحة الآمرة للمسلمين بأن يعمِلُوا فكرهم في فقه القرآن والسنة لاستخرج ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم.
وقد استخرج العلماء هذه الأساليب، فكان منها التعليم المبتدأ، والتعليم بحسب المناسبات والتعويد والتكرار، والقصص الهادف، والترغيب والترهيب، والقدوة الحسنة، والتأديب والعقوبة.
المبحث الأول : التربية بالتعليم المبتدأ
فأما التعليم فهو الأسلوب الأصلي في التربية الإسلامية، فالله تعالى الذي كرَّم الإنسان بالعقل الذي يميز به بين الخير والشر وبين النافع والضار ويوازن به بين المصالح والمفاسد، قد جعل الأساليب الأصلية لتربيته مناسبة لهذا التكريم فكان أولها التعليم والتلقين، فجعل رسله الكرام معلمين للناس وأنزل عليهم الكتب فيها موعظة حسنة وتذكير لأولي الألباب. قال تعالى : (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران 138) وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس57). ونبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم قد اعتمد هذا الأسلوب كأصل في دعوته وتربية أصحابه، بوصف القرآن له وشهادة أصحابه، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"([1]) أي يتعاهدنا بالتعليم والتذكير، وقال معاوية بن الحكم السلمي:" فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ"([2]). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»([3]).
وهذا التعليم منه ما يكون مرتبطا بمناسبات تقتضيه ومنه يكون مبتدأ مستقلا عن المناسبات، ومن هذا التعليم ما ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لابن عباس لما كان راكبا معه على دابته :« يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ »([4])، ومنه أيضا الآيات القرآنية التي نزلت نزولا مبتدأ من غير سبب معروف أو مناسبة واضحة.
وهذا التعليم المبتدأ ينبغي أن يكون مخططا له، وأن تراعى فيه أمور منهجية مهمة وهي: الاستعداد والتدرج ثم المداومة .
المطلب الأول : استعداد
أما الاستعداد فمعناه تحين الأوقات التي يكون فيها قلب الطفل مستعدا لتقبل المعلومة أو الموعظة، واجتناب الأوقات التي يكون قلبه فيها مشغولا، كالوقت الذي يكون فيه الطفل يعالج النعاس، أو الوقت الذي اعتاد الخروج فيه للعب مع أقرانه.
فينبغي اغتنام الأوقات التي يكون اهتمامه فيها حاضرا وقلبه منتبها، كما علم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن أبي سلمة آداب الطعام حين حضر الطعام، فرسخ ذلك التعليم في قلبه ولم يفارقه، فعن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ قال:" كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ"([5]).
وكذلك تُغتنم الأوقات التي يلين فيها القلب لأنه أدعى للامتثال والقبول خاصة إذا كان الشيء المراد تعليمه للولد مما تستثقله النفوس، وقد عمل بهذا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:"كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّار"([6]).
ومما يدخل في معنى الاستعداد استعداده العقلي لفهم النصيحة أو المعلومة المقدمة له، وإلا فمن حمل الطفل فوق طاقته، فهو كمن يكلمه بلغة لا يفهمها، وكمن يحمل عليه أثقالا هو لا يقدر على حملها، ولذلك نجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكلف الآباء بأمر أولادهم بالصلاة إلا لسبع سنين لأنه السن الذي يفقهون فيه معنى الصلاة، ثم أمرهم بضربهم عليها لعشر لأنه الوقت المناسب لذلك أيضا.
قال ابن بدران :" ينبغي أن يكون المعلم حكيما يتصرف في طرق التعليم بحسب ما يراه موافقا لاستعداد المتعلم وإلا ضاع الوقت بقليل من الفائدة ، وربما لم توجد الفائدة أصلا "([7]).
المطلب الثاني: التدرج
وأما التدرج في التعليم فمعناه تعليم الولد شيئا فشيئا، ومما يدل عليه أن من حكمة نزول القرآن مفرقا التدرج في تشريع الأحكام وتمكين الصحابة من استيعاب الشرائع حفظا وفهما وعملا، فكان الصحابة كلما نزلت سورة أو آية حفظوها وعملوا بها، ولو نُزِّل عليهم جملة واحدة لما أطاقوا حفظه، ولما أمكنهم التزام شرائعه. وإلى هذا المعنى أرشد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قال لمعاذ لما أرسله إلى اليمن:" إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ"([8])، وقوله "من أهل الكتاب" ليس لتخصيص الحكم بهم، ولكن لتعريف الداعي والمعلم بمن سيخاطبهم، وفي هذا الحديث دلالة أنَّ التوحيد هو عنوان الرسالة التي يدعى إليها الناس، وأنه لا يصح التكليف بالشرائع دون تمكن العقيدة من القلوب، وفيه دلالةٌ على أن فهم المتعلم وعمله بما تعلمه ضروري للانتقال إلى ما بعده، وبيانٌ لخطأ المعلمين الذين لا يهمهم إلا إكمال البرامج، ولو كان نسبة المستوعبين للدروس تقل عن عُشر التلاميذ، (وفيه بيانٌ لفساد المناهج المعتمدة على نقل التلاميذ إلى مستويات أعلى وهم لا يسحقون ذلك).
وقد نص العلماء على قضية التدرج في التعليم ومن أقدمهم أبو حامد الغزالي حينما تحدث عن وظائف المرشد المعلم ([9]).
المطلب الثالث : المداومة
وأما المداومة فيدل عليها قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الْأَيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا"([10])، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ"([11]). وقال عز وجل : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه/132] أي اصبر على فعلها وداوم على الأمر بها.
فالذي يهم المربين بالدرجة الأولى، قضية المدوامة على التعليم والنصيحة والتذكير، لكننا نلاحظ في كثير منهم إهمالا لهذا الواجب، ثم إذا سمع موعظة في التربية أو قرأها : نصح أولاده نصيحة طويلة يجمع لهم فيها أدب الدنيا والدين، ووصايا الأولين والآخرين، ويظن أنه بذلك قد كفر عن ذنبه وتخلص من واجبه، وهو مخطئ في ظنه وفعله. فإن من المعاني التي تتضمنها كلمة التربية التنشئة والتعاهد والمتابعة والمداومة على التعليم والنصح وتكريره.
[1]/ رواه البخاري (68) ومسلم (2821).
[2]/ رواه مسلم (537).
[3]/ رواه مسلم (1478).
[4]/ رواه الترمذي (2516) وصححه.
[5]/ رواه البخاري (5376) ومسلم (2022) واللفظ للبخاري.
[6]/ رواه البخاري (1356).
[7]/ المدخل إلى مذهب أحمد بن حنبل (491).
[8]/ رواه البخاري (1458) ومسلم (19).
[9]/ إحياء علوم الدين (1/57).
[10]/ رواه البخاري (68) ومسلم (2821).
[11]/ رواه البخاري (6464) ومسلم (783).