المبحث الرابع : القصص الهادف
من الطرق التربوية التي نوصل بها الفكرة الصحيحة إلى عقول الناشئة ونغرس بها العقيدة السليمة في قلوبهم: القصص الهادف، وهو طريق شرعي دل عليه القرآن العظيم والسنة المطهرة، فالقرآن الكريم مليء بالقصص التربوي، وقد قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب) (يوسف 111) وقال: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف: 176) وقال سبحانه: (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود:120) والنبي صلى الله عليه وسلم قص على أصحابه وعلينا قصصا كثيرا فيه عبر وعظات كقصة صاحب السحابة، وقصة أصحاب الغار وقصة أصحاب الأخدود وقصة جريج وغيرها.
وتعتبر القصة من الطرق الناجحة في التربية لأن الإنسان عامة والطفل خاصة يميل بفطرته إلى استماعها ومتابعتها، ولأن عنصر التشويق حاضر فيها من غير تكلف، فهي تدعوا إلى الانتباه أكثر مما يدعوا إليه التعليم المجرد، ولأنها ترسخ في الذهن من غير تكرار فتبقى السنوات الطوال، حتى إنك ترى الناس يتوارثون هذا القصص أبا عن جد، ولأن فيها الجانب العملي التطبيقي المصدق للمُثُل النظرية، ولأن فيها اقترابا نوعيا بين الولد والمربي، خاصة من جانب الوالدين حيث يجد الولد طعم الأبوة والأمومة وحنانها.
ويرتبط بالقصة المعتمدة أسلوبا تربويا عدة ضوابط لا بد من ملاحظتها نذكر أهمها فيما يأتي:
المطلب الأول: تخير القصص الهادف
والمقصود بالقصص الهادف، القصص الذي يبين أثر عقيدة صحيحة أو خلقا حميدا ويدعوا إلى ذلك، وقصص القرآن هادف كله بلا مرية، فإننا إذا أرشدنا إلى هذا الأسلوب فإن مادته الأولى في كتاب الله تعالى، وقد تميز القصص القرآني بعدة مزايا،
- منها الواقعية فهي أمور حدثت فعلا وليست من الأساطير، وهذا مما يزيد في تأثيرها.
-ومنها أنه لا يسوق من القصة إلا ما يتعلق بالغرض المراد وما كان مفيدا.
-ومنها أنه يقحم النصائح والعظات في ثنايا القصة كقوله : (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) (الصافات79-82). وكقوله سبحانه: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:56) .
ويخطئ كثير من الناس في تطبيق هذا الأسلوب، حيث يعتمد على قصص الأنبياء المأخوذ من أهل الكتاب أو ما يسمى بالإسرائيليات، وهو في الغالب خال تماما عن العبرة المفيدة، وربما حوى أخبارا كاذبة تنطوي على عقائد باطلة، كقصة هاروت وماروت مع إدريس عليه السلام.
ومن القصص الهادف إضافة إلى ما قصه الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحابة، والسيرة النبوية العطرة، وسير الصحابة رضوان الله عليهم، وسير علماء الأمة وأبطالها الأفذاذ، ويدخل في هذا المعنى أيضا المختارُ من قصص العرب، الذي يحكيه الأدباء في بيان مكارم الأخلاق وخصال الرجولة والمروءة.
المطلب الثاني : انتقاء أبطال القصة
ومما ينبغي التنبه إليه أن تأثير أشخاص القصة لا يقل أهمية عن تأثير موضوعها، فأنت إذا بينت فضيلة من الفضائل في قصة مروية عن صحابي جليل أو عالم من العلماء المسلمين، فإنك في الوقت الذي تدعو فيه إلى تلك الفضيلة، تدعو إلى تعظيم ومحبة ذلك الصحابي أو العالم وترغب في الاقتداء به، قال العلامة ابن باديس وهو يبين أهمية قصص السلف:« ففي ذلك ما يثبت القلوب ويعين على التهذب، ويبعث على القدوة، وينفخ روح الحياة، وما حيي خلف إلا بحياة سلف، وما حيي سلف إلا بحياة تاريخهم ودوام ذكرهم »([1]) ، ومنه فإنه من الخطأ الواضح أن يؤتى بقصص تربوي مترجم من ثقافات غربية أبطاله أعاجم من يهود أو نصارى أو من أهل اليونان والرومان، لما في ذلك من ربط للطفل بقدوة غير إسلامية وبتاريخ غير تاريخ أمته، ولما فيه من إضعاف لعقيدة البراء من الكفار في نفسه.
المطلب الثالث : الحذر من القصص الخرافي
ومن القصص ما هو مُحبب عند كثير من الناس لوجود عناصر التشويق والإثارة فيه، ولكنه في الوقت نفسه خال من العبرة ولا يهدف إلى شيء، وكل ما يحصل منه الطفل والقاص مجرد التسلية، ككثير من قصص جحا وغيره، بل ربما كان في كثير من قصص التسلية آثارا سلبية كالقصص الذي يغرس في نفس الطفل الخوف من الغول الموهوم فإن مثل هذا القصص يهدم شخصيته، ويبني طفلا جبانا متخاذلا، والمطلوب منا أن نربي الأطفال على الإقدام والشجاعة، حتى نبني أمة شجاعة قوية، لا أن نربيه على الجبن فنبني ذلك أمة ضعيفة متخاذلة. وكذلك نتجنب القصص الخرافي الذي يغرس في الطفل التصديق بالأساطير ويفسد عقيدته ويقتل حسه الفكري ويقربه من عالم السحر والشعوذة، أو يجعله يقدس ما ليس له قداسة من أحجار ووديان وقبور وغيران.
المطلب الرابع : الحذر من القصص الملغَّم
وهذا الأسلوب مع نجاعته يغفل عنه كثير من المربين من معلمين وآباء على حد سواء، وربما تجد منهم من يقص على الولد يومياته ومشاكله مع الناس، مما فيه شغل له بما لا نفع فيه، وربما كان فيه ما يقسي القلب من غيبة للناس ولمز لهم.
وكذلك علينا أن نحذر من تمكين الناشئة من كتب القصص الملغم الذي ملأ مكتبات العالم كالقصص الغرامي المفسد للأخلاق والمذهب للحياء، والقصص البوليسي المعلم لأساليب الجريمة والمرغب فيها، والقصص الهزلي الماسخ لشخصية الناشئة، وما يقال عن القصص المكتوب يقال عن القصص المصور في الأفلام والمسرحيات والرسوم المتحركة، بل هذه أشد خطرا أعني إن تضمنت المعاني الفاسدة المذكورة، ولا بد للمربين أن يتعاملوا مع القصص بحذر كبير، وقد أعجبني نقد أحدهم لمغامرات (الطرزان)، الذي لا يعرف وسيلة لحل مشاكله إلا القوة البدنية، حيث قال:" إن هذا القصص يسقط سلوك الطفل العقلاني، يحل محله السلوك العدواني".
ولا يفوتني أن أحذر الآباء من تمكين أولادهم من قراءة وسماع أخبار الفواحش وأنواع الفساد والجرائم التي قد تنشر على أنها من الواقع وقد تكون كذلك، فيدخل ذلك الأمراض إلى قلوبهم، وصدق الله العظيم وعدل إذ يقول في هؤلاء الذين يشيعون مثل هذه الأخبار السيئة: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19).
المطلب الخامس: قصة نموذجية من صحيح السنة النبوية
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم :« كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا فَقَالَ وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ لِلْآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ»([2]).
ففي هذه القصة مع قصرها عبرا عديدة ربما يستفيد سامعها كثيرا منها ولو من دون شرح ، وهذا بيان لأهمها:
1-الحذر من شر اللسان الذي يورد أصحابه الموارد .
2-وتحريم الحكم على الناس بالنار لمجرد المعاصي .
3-التحذير من القول على الله بلا علم .
4-وجوب الصبر على الداعي إلى الله تعالى والناصح بأن يحذر من ردود الأفعال .
5-أن يعتقد الداعي أنه مبلغ ليس إلا وأن الهداية بيد الله تعالى.
6-إثبات عقيدة البعث والحساب والقصاص والجنة والنار .
7-أن من لوازم الأخوة الصحيحة النصيحة برفق.
8-التحذير من الغرور وتزكية النفس .
9-أن من المعاصي ما هو محبط للعمل .
10-أن الله تعالى قد يغفر الذنوب ولو من غير توبة.
11-أن أصحاب الكبائر من الموحدين يستحقون دخول النار.
12-وفيها تصديق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:« لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ قَالَ رَجُلٌ وَلَا إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَلَا إِيَّايَ إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ وَلَكِنْ سَدِّدُوا»([3]).
13-وفيها إثبات لجملة من صفات الله عز وجل، صفة الكلام ، وصفة الرحمة والمغفرة ، وصفة الانتقام، وصفة الحفظ والرقابة.
[1]/ آثار ابن باديس (3/21).
[2]/ رواه أبو داود (4255) وخرجه مسلم مختصرا من حديث جندب.
[3]/ رواه مسلم (2816).