المبحث الثالث : التعويد والتكرار
ذكرنا في المبحث الأول أن الأصل في تربية النشء هو التعليم والتلقين، ولكن هذا الأسلوب يعتريه نقص من جهة أن من طبيعة الإنسان النسيان والغفلة ولتكميل هذا النقص قد ذكر العلماء أسلوبا آخر تابعا لأسلوب التلقين وهو أسلوب التعويد والتكرار، وكأن التلقين جانب نظري علمي والتعويد جانب عملي تطبيقي.
ومعنى التعويد أن يدرب النشء على فعل أشياء وقول أخرى حتى يعتادها أو يحفظها، ومن أجل حاجة الإنسان إلى هذه الطريقة في التربية قد لاحظ بعض علماء التربية أن مدة طفولة الإنسان التي لا تكليف فيها طويلة جدا.
ومن الأشياء التي تتلقى بالتعويد والتكرار كثير من الآداب العملية التي لا يكفي فيها مجرَّد التعليم، ومنها الأذكار اليومية المأثورة كأذكار الصباح والمساء، وأذكار النوم والخروج من البيت، ومنها آداب التعامل مع الناس كإفشاء السلام وطريقة الخطاب، ومنها أيضا بعض العبادات التي لا بد من ترويض النشء عليها حتى تؤلف، ولا تكون ثقيلة على النفس كالصلاة والصيام وحضور مجالس العلم وحفظ القرآن والحجاب بالنسبة للبنات. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:« حافظوا على أولادكم في الصلاة وعلموهم الخير فإنما الخير عادة»([1]).
ومن الهدي النبوي في هذا المضمار قوله صلى الله عليه وسلم:« مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ»([2])، إذ من المعلوم أن الصلاة لا تجب على العبد إلا بالبلوغ، فأمرُ الوالد بتعليمه الولد في سن وضربه في أخرى، إنما هو لحكمة واضحة ولعلة جلية وهي تعويده عليها حتى يستأنس بها، لأن الصلاة عبادة فيها التزام بالأداء وانضباط بالمواقيت، ومن أمر بها دفعة واحدة على الوجه الأتم وهو كبير في السن تتنازعه أمور الدنيا ومشاكلها لا شك أنها تثقل عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:" مروا " يقتضي تكرار الأمر مع كل وقت صلاة، ولا تأتي مرحلة التأديب (أي العقوبة) عليها إلا بعد ثلاث سنوات أي بعد أكثر من خمسة آلاف وأربعمائة أمر وزيادة.
ومن الهدي النبوي أيضا ما حكت الرُّبَيِّع بنت معوذ رضي الله عنها بعد أن روت حديث فرض صيام عاشوراء قالت:« فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ » ([3]).
فقد كان السلف يعودون الصبيان الصوم حتى وهم في مثل هذا السن الذي لا يعقلون فيه الصوم لأجل مصلحة تعويدهم عليه، وقد اختلف الفقهاء في الوقت الذي يؤمر فيه الصبيان بالصيام، فكان الحسن وابن سيرين وعطاء والزهري وقتادة والشافعي يقولون : يؤمر به إذا أطاقه، وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعًا لا يخور فيهن ولا يضعف حمل على صوم رمضان، وقال إسحاق : إذا بلغ ثنتي عشرة سنة أحببت له أن يتكلف الصيام للعادة، بل من الفقهاء من ذهب إلى أن الصبي إذا أطاق الصيام وجب عليه وهو قول شاذ غير صحيح.
وتكوين العادات عند الطفل يبدأ في سن مبكرة جداً منذ الشهر السادس تقريبا حيث يبتهج بتكرار الأعمال التي تفعل من حوله، وهذا التكرار يكوِّن العادة لديه، ولأجل هذا ينصح علماء التربية الأمهات بالابتعاد عن تدليل الطفل منذ ولادته، فالطفل في أيامه الأولى يسكت عن البكاء عندما يحس بأنه محمول، فإذا حمل كلما بكى صارت عادة له، فلا يسكت إلا إذا حمل، وكذلك الأم التي تعوِّد الرضيع على الرضاعة ليلا؛ فيصير يستيقظ كل ليلة ويطلب الرضاع وإن لم يشعر بالجوع، وقد تستمر هذه العادة حتى سن متأخرة، ويصعب عليه تركها.
ويخطئ بعض الأولياء إذ تعجبهم بعض الحركات والكلمات على لسان الطفل فيضحكون منها، وقد تكون سلوكا غير حميد، كإخراج الطفل لسانه أو تلفظه بالكلمات النابية، وهم بهذا الإعجاب يكوِّنون العادة السيئة للطفل من حيث لا يشعرون.
ولكي نعوِّد الطفل على العبادات والعادات الحسنة يجب أن نبذل الجهود المختلفة ليتم تكرار الأعمال والمواظبة عليها بالترغيب والترهيب والقدوة والمتابعة وغيرها من الوسائل التربوية.
أثر التخلي عن هذا الأسلوب
وفي المجتمع الإسلامي اليوم ظواهر خطيرة وغريبة عن قيمه ودينه وأخلاقه، وما فشت فيه إلا لعدم صبر المربين على هذا المنهج التربوي.
ومن هذه المظاهر ترك الصلاة أول ركن عملي في الإسلام وشعاره الظاهر وأول ما يحاسب عليه الناس بعد التوحيد، الصلاة التي جاء الوعيد فيمن أخرجها عن وقتها، وجعلت شرطا على الكفار لعصمة دمائهم وأموالهم مع الشهادة، فنسبة المصلين في بعض الجهات لا تصل إلى عشر السكان المسلمين، بل وفي جهات أخرى لم يبق من يعمر بيوت الله إلا الشيوخ المسنون وجهات أخرى أغلقت المساجد لفناء المصلين، ومن الأسباب المباشرة لكل هذا هو تهاون هؤلاء المصلين في تربية أولادهم وعدم تعويدهم على الصلاة.
وكذلك من هذه الظواهر ظاهرة التبرج وارتداء اللباس الإفرنجي الفاضح عند النساء، ظاهرة لم تكن لتفشو لو اتُّبِع السبيل الشرعي لتربية بناتنا، بتعويدهن على اللباس الشرعي المحتشم منذ الصغر، ومما أوجب هذا الأمر تهاون أكثر المسلمين عن أداء واجبهم، وقولهم:" مازالت صغيرة … إذا كبرت سأعلمها الحياء ..." يقولون هذا وغيره ولا حد بيِّن للصغر عندهم، حتى إذا كبرت البنات وفقدن الحياء استعصى عليهم أمر الإصلاح وحينها يندمون ولا ينفع الندم.
[1]/ رواه الطبراني في المعجم الكبير (9/236) والبيهقي في السنن الكبرى (3/84).
[2]/ رواه أبو داود (495).
[3]/ رواه البخاري (1960) ومسلم (1136).